جريمة ضد موسيقى الروك والبهجة

14 نوفمبر 2015
+ الخط -
استهدف المجرمون (من هم؟) في باريس، الليلة قبل الماضية، ناساً كيفما اتفق، في مطاعم وملعب رياضي ومسرح ومقهى، بتفجير أنفسهم بأحزمةٍ ناسفة وبإطلاقهم الرصاص الأعمى، فقتلوا أزيد من 140 شخصاً. وفي المطاعم والمقاهي والمسارح والملاعب، لا يكون الناس من جبلّة واحدة، ولا من لونٍ واحد. وفي باريس تحديداً، لا يمكن أن يكونوا في هذه الأماكن من بلد واحد ومن دين واحد، لكنهم (الناس) عموماً، وفي باريس خصوصاً ربما، في المطاعم والمقاهي والمسارح والملاعب، يكونون في مزاج واحد، هو البهجة وتزجية الوقت في قسط من وداعة النفس وهناءتها، بعيداً عن العزلة مع الذات والوحشة ومطارحة الهموم الخاصة.
ومن مفارقاتٍ كاشفةٍ أن نحو مائة ممن قضوا في الليلة الدامية كانوا في مسرح باتاكلان في باريس، يبتهجون بسماع موسيقى الروك، وهذه، على ما هو معروف، أميركية وبريطانية، ولم يكن لها موطن في فرنسا. وهي أساساً موسيقى شعبية، متنوعة الإيقاعات، تتصف ببعض السرعة، وقد اقترن شيوعها، في الستينيات خصوصاً، بالغضب، وتبدّت تمثيلاً لحركة ثقافية وظاهرة اجتماعية ذات سمتٍ احتجاجي. وقد طرأت تطويراتٌ غير قليلة عليها، وصارت تبدو خلطةً من موسيقاتٍ متنوعة، لا يدّعي كاتب هذه السطور دراية بتفاصيلها، ولكن، في وسعه الإحالة إلى أنه، بشأن موسيقى الروك، في جريمة باريس، تم استهداف تلك السهرة في المسرح، بحضور نحو 1500 مستمع فيها، بما تؤشر إليه من ثقافة التنوع والتعايش الخلاق بين الأمزجة والأديان والأعراق والفنون، وهذه ثقافة حاضرة في موسيقى الروك التي كانت ضيفاً على ناس باريس في ليلتهم المفزعة، وفي سماعهم إيقاعاتها التي تآلفت فيها تنويعاتٌ وافدة من عدة شعوب. وبذلك كله، كان الحضور في مسرح باتاكلان يبتهجون بالتآخي الإنساني الذي يتمثل في هذه الموسيقى ذات النزوع إلى الغضب، من غياب العدالة مثلاً.
قضى في الجريمة ناسٌ أمام مطعم بيتزا في جادّة فولتير، وفي مطعم ياباني في شارع آخر. لا تحتاج، وأنت تقرأ عن هذه الجناية، أن تنقب عن جنسيات الضحايا وأعراقهم وأديانهم، فتنوعهم مرجّح، إن لم يكن مؤكداً، كما هو تنوّع الخضروات واللحوم في أنماط البيتزا العديدة، والتي يتوخّى المُقبل عليها تسريةً في النفس، إذا ما كانت متقنةً ومبهجة، وفي البال أن البيتزا صارت وجبة عابرة للجنسيات والثقافات (والبيوت والمنازل)، وأن تتناولها في جادّة تحمل اسم فولتير، الكاتب الإنساني الفريد، مبعث غبطة خاصة ربما، لا يعرف عنها شيئاً خفافيش الإرهاب، وأهل الأحزمة الناسفة والرصاص الأعمى، والذين كانوا، الليلة قبل الماضية، يُشهرون العداء الأقصى الصريح للمجتمع الإنساني بالمطلق، فلم يسلم من عتمتهم مطعم ياباني، دلّ ضربه، في باريس، على كونيّة الإرهاب وأمميته.
بينما كان باريسيون يبتهجون بموسيقى الروك، كان آخرون يبتهجون في السهر في مطاعم وديعة، للبيتزا والمأكولات اليابانية والمأكولات التي بلا هويات. وأكثر من هؤلاء وأولئك كانوا يتابعون مباراة لكرة القدم بين المنتخبين الفرنسي والألماني، ببهجة وفرح وفيريْن، وبحضور رئيس الجمهورية، كأنه هو الآخر يتوسّل بعض الوقت بعيداً عن المسؤوليات الضاغطة. ولا بهجة ولا فرح في مشاهدتك مباراةً في كرة القدم، إذا لم تتوفر فيها الروح الرياضية، وهذه تعني التسامح والعفو والسمو والترفع وكرم الأخلاق، وتعني، قبل ذلك كله وبعده، اللعب النظيف. وفيما كانت الأقدام تتناوب الكرة للتهديف والتمرير والتسديد، سمع الدويّ عالياً لأصوات تفجيرات قتل الناس في المطاعم والشوارع، وكأنها تذكّر اللاعبين والفرحين بهم بأن ثمة لعباً آخر في العالم، ليس بالأقدام والكرات، وإنما بالأحزمة الناسفة وبالرصاص.
لأهل السياسة والمشتغلين بالتحقيقات الجنائية والتدابير الأمنية أن يجتهدوا فيما إذا كانت قطبةٌ داعشيةٌ وسوريةٌ في ليلة باريس الدامية، أما أهل الفرح والبهجة من سمّيعة موسيقى الروك ومحبي البيتزا والشغوفين بكرة القدم فلهم أن يقاوموا أعداء الفرح والبهجة بمزيد من سماع الموسيقى والمتعة بالطعام اللذيذ وبأهدافٍ أكثر في مباريات كرة القدم.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.