جدوى دراسات الجدوى

05 فبراير 2024

(عبد الهادي الجزار)

+ الخط -

ثمّة مثل شعبي شائع لدى المصريين البسطاء، وهو "بعد العيد لا يُفتل الكعك". وفكرته أن الأمر الذي لا يتم في أوانه لا فائدة منه. وينطبق هذا المثل، العبقري رغم بساطته، على مصر وأحوالها الراهنة. فقد تكرّر، حتى صار معتاداً، أن تتخذ السلطة في مصر قراراً وتنفّذه أو ترسم سياسة وتطبقها أو تدشن مشروعاً وتفتتحه. ثم تتراجع، فتعيد النظر في نتائج السياسة المتبعة، أو تلغي القرار أو تدرس جدوى المشروع. 
ورغم حدوث هذه الدورة السلبية مرّات متعدّدة في الأعوام الماضية، هناك إصرار غير مفهوم على اتباع النهج ذاته في إدارة الدولة... وهو النهج الذي أعلنه صراحة رأس السلطة قبل نحو ستة أعوام، حيث قال على الهواء في ديسمبر/ كانون الأول 2018: "لو أننا اتّبعنا دراسات الجدوى لما حققنا 25% مما أُنجِز". كانت هذه هي المرّة الأولى، ولكنها ليست الأخيرة، التي تتعرض فيها دراسات الجدوى لإهانة واستهتار رسميين، حيث تكرّر المعنى ذاته لاحقاً أكثر من مرّة. لكن بعد أن انهمكت الدولة في مشروعاتٍ غير مدروسة استنزفت مئات المليارات من الدولارات سنوياً. وربما لولا الضغوط الناجمة عن الانكماش الاقتصادي العالمي، لما أقرّت السلطة المصرية بفشل مشروعاتها، ولكانت اندفعت إلى مشروعات أخرى تكبّد المصريين ملياراتٍ فوق مليارات، من دون أي دراسات جدوى.
لكن تحت وطأة أزمتي كورونا ثم حرب أوكرانيا، أكّد مسؤول حكومي مصري في يونيو/ حزيران 2022، أن ثمة تفكيراً في تأجيل المرحلة الثانية من مبادرة "حياة كريمة"، لدراسة الأثر الاقتصادي للمشروع. وبعد أقلّ من شهرين، بدأت وزارة النقل دراسة وقف تشغيل "القطار الكهربائي الخفيف" الذي يربط القاهرة بالعاصمة الإدارية، وذلك لثبوت عدم جدواه اقتصادياً، بعد أن بلغت تكلفة المرحلة الأولى منه 2.3 مليار دولار. وقبل أن ينتهي عام 2022، قرّرت وزارة الري المصري إعادة تقييم المشروع القومي لـ"تبطين الترع" والمجاري المائية، الذي كان الإعلام المصري قد اعتبره "أكبر مشروع من نوعه على مستوى العالم في العصر الحديث".
وقبل شهرين، اعترف السيسي علناً بفشل مشروع تأسيس مدينة جديدة للأثاث في محافظة دمياط شمال شرق القاهرة، وأقرّ بأن السبب إغفال أبعاد اجتماعية لم يأخذها مخطّط المشروع في الحسبان. 
كذلك شهد العام الماضي 2023 توقّفاً شبه كامل للعمل في مشروعات عدّة، تشمل المونوريل والقطار السريع ومشروع المليون فدّان. بينما لم يسمع أحد عن أي جديد في مشروع "الرمال السوداء" والمزارع السمكية و"مائة مليون صحة" وغيرها من مشروعات لو صحّ ما روَّجه الإعلام عنها، لصارت مصر من أغنى الدول بين عشيةٍ وضحاها. ولو تم توفير تكاليفها، لتكفّلت بسداد جزء كبير من ديون مصر، فضلاً عن تخفيف المعاناة في المناطق السكنية التي تتعطّل الحياة فيها، وبعضها لا تزال مكبّلة بالمخازن والمعدّات والحفائر الخاصة بتلك المشروعات. هذا كله بخلاف التوظيف السياسي لتلك المشروعات الوهمية، لخداع البسطاء بأن ثمّة تنمية تجري ومستقبلاً مشرقاً قادماً، رغم أن معيشتهم اليومية مريرة ومؤلمة.
المؤسف في ذلك كله، ليس سوء التقدير أو الغباء في الإدارة أو ارتكاب الأخطاء، بل الإصرار عليها وتكرارها بالطريقة ذاتها مرّات ومرّات. كما لو كان في الاستعانة بالمتخصّصين والخبراء، تشكيك في قدرات من يملون القرار أو إهانة لعقولهم. 
هذا هو سمت العقليات المنغلقة والشخصيات العُصابية كالتي تحكم مصر حالياً. رغم أن أقلّ الناس ذكاءً وأكثرهم غروراً، كان سيدرك بسهولة المعنى الواضح في تكرار تعثر المشروعات واستمرار إخفاق السياسات. وهو أن الأزمة الحقيقية فيمن يعتبرون الاعتراف بالحقّ خطيئة لا فضيلة، إذ لا جدوى مع من يجهل قيمة دراسات الجدوى.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.