جدار العار في بيرو وخطر الأبارتهايد الاجتماعي
عادت جمهورية بيرو الواقعة في غرب أميركا الجنوبية إلى واجهة الأحداث بعدما أصدرت المحكمة الدستورية هناك في 30 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) حكماً بإجماع آراء قُضاتها يقضي بعدم دستورية بقاء الجدار الذي أقيم على تل في شرق العاصمة ليما، والمعروف إعلامياً بجدار العار الذي يفصل المناطق الأكثر ثراء في العاصمة عن الضواحي الأكثر فقراً وتهميشاً. وألزمت المحكمة السلطات بوجوب هدمه خلال 180 يوماً. واعتبر رئيس المحكمة الدستورية استمرار وجود هذا الجدار نمطاً صارخاً للتمييز على أساس طبقي واجتماعي، ويمثل تهديداً للسلم الاجتماعي.
يلقي بناء مثل هذا الجدار العازل الضوء على الخلفية الاجتماعية للاضطرابات السياسية التي تعاني منها بيرو منذ عقود، أحدث فصولها عزل الرئيس بيدرو كاستيلو واعتقاله في 8 الشهر الماضي (ديسمبر) بعد محاولته حلّ المجلس التشريعي. ولهذه الأزمة السياسية بعد اجتماعي عميق تراكمت مسبّباته عقوداً، محدثة خللاً في قيام النظام السياسي بوظائفه، واستقرار ديمقراطية بيرو منذ رحيل النظام السلطوي للرئيس السابق، ألبرتو فوجيموري، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2000. تعاني بيرو من معدّلات عالية للفقر وفجوة تنموية واسعة بين المناطق الحضرية والريفية. وعلى الرغم من تزايد معدلات النمو الاقتصادي في العقدين الأخيرين في بيرو، بفضل ارتفاع أسعار الثروات المعدنية، فإنّ هناك تفاوتاً اجتماعياً حادّاً بين أقلية تسيطر على معظم الثروات وقطاع كبير من السكان يعاني من الفقر والتهميش وافتقاد الخدمات الأساسية. وكانت العاصمة قد استقبلت في الثمانينيات والتسعينيات موجات كثيفة من الهجرات الداخلية من المناطق الريفية المهمّشة في سياق فرار سكانها من أعمال العنف والهجمات المسلحة. وقد مثّل انتخاب كاستيلو، المدرّس المنحدر من أصول ريفية، أملاً لدى المهمّشين اجتماعياً، بخاصة من المناطق الريفية في إحداث إصلاحاتٍ اجتماعيةٍ هيكلية لمواجهة الفقر، والنقص الحاد في توفير الخدمات العامة لقطاعات واسعة من المواطنين. لكنّ كاستيلو وقع في أخطاء سياسية جسيمة أفقدته قطاعاً واسعاً من شعبيته، وأحدثت انقساماتٍ سياسية داخل حزبه سهّلت من مهمة إطاحته بواسطة تحالف يجمع العناصر المحافظة في الدولة والبرلمان والأحزاب السياسية.
تفاوت اجتماعي حاد بين أقلية تسيطر على معظم الثروات وقطاع كبير من السكان يعاني من الفقر والتهميش وافتقاد الخدمات الأساسية
بُني الجزء الأول من جدار العار في بيرو عام 1985 لحماية مؤسساتٍ تعليميةٍ تضم أبناء النخبة في العاصمة ليما، بخاصة في سياق المواجهات المسلحة التي اندلعت تلك الفترة بين الحكومة والمعارضة السياسية المسلحة. ثم أعيد استئناف بناء الجدار في بداية الألفية لمنع الاستيلاء على الأراضي إلى أن استقر الجدار عام 2013 عازلاً يحمي مناطق الأثرياء من تسلّل السكان من المناطق الأكثر فقراً وتهميشاً في العاصمة. يمتد الجدار الخرساني على نحو عشرة كيلومترات، ارتفاعه متران، وتعلوه أسلاك شائكة. وهو يفصل بين الفقراء في حي سان خوان دي ميرافلوريس والأغنياء في حي كاسواريناس.
كان يتم تناول قضية الفصل الجغرافي بين المناطق السكنية في البداية في سياق التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، أو في إطار توصيف سياسات الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ثم بدأ التطرّق لها في ظل سياسات الإسكان التمييزية المتبعة في بلدانٍ عدة، والتي عزّزت، مع الوقت، من الفصل المكاني وبناء الحواجز بين مواطني الدولة الواحدة. في تقريره الصادر في مارس/ آذار 2022 ناقش المقرّر الخاص المعني بالحق في السكن الملائم في الأمم المتحدة، بالاكريشان راجاغوبال، شيوع ظاهرة الفصل المكاني في سياسات الإسكان، والتي يعرّفها التقرير بأنّها الفصل الجغرافي بين جماعاتٍ من المواطنين في الدولة الواحدة حسب العرق، أو اللغة، أو الدين، أو الوضع الاجتماعي.
قد يكون هذا الفصل مؤسّساً بالقانون، أو أمراً واقعاً نتيجة سياساتٍ تنتهجها الدولة في الإسكان والتخطيط العمراني، ينتج عنها تمركز الفئات الأكثر تهميشاً في غيتوات معزولة، أو التوسّع في بناء مستوطنات سكنية غير رسمية على حوافّ المدن، يقطنها الفقراء أو المنتمون للأقليات المهمّشة أو المهاجرون واللاجئون. ويصاحب هذا الفصل المكاني عادة افتقاد القاطنين في هذه المناطق المرافق والخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وشبكات للصرف الصحي، فضلاً عن المعاناة من الاستبعاد والتمييز، والنظرة الدونية والتنميط الاجتماعي. في الهند، على سبيل المثال، تتمركز طائفة الداليت، وجماعة السارانيا العرقية، وهما من الفئات المهمّشة تاريخياً في البلاد، في مستوطنات سكنية في منطقة جوهابورا في مدينة أحمد أباد، وقد أقدمت السلطات المحلية هناك على بناء جدار عازل على مسافة 500 متر لحجب التشوّه الذي تمثله هذه المنطقة بدلاً من تنميتها. وفي دول شرقي أوروبا، مثل بلغاريا ورومانيا، تعاني طائفة الروما من التهميش الاجتماعي، والحرمان من الخدمات الأساسية في المناطق السكنية التي تتمركز فيها، والمعزولة جغرافياً.
تذكّرنا قصة جدار العار في بيرو بارتباط تشوه تخطيط عمران المدن وسياستها في الإسكان بتزايد معدلات الفقر
تذكّرنا قصة جدار العار في بيرو بارتباط تشوّه تخطيط عمران المدن وسياستها في الإسكان بتزايد معدلات الفقر، والفشل في مؤشّرات التنمية الاقتصادية، واستمرار التفاوتات الصارخة في الدخول والثروات بين السكان. والمفارقة في كثير من بلدان الجنوب، ومنها دول عربية عدة أنّ الفشل المنهجي للحكومات في توفير الخدمات الأساسية والمسكن الملائم والأمن في المناطق المهمّشة والفقيرة أصبح يتزامن معه عادة تشدد في إجراءات الحماية والعزل للمناطق الأكثر ثراءً في المدن، وتسهيل الاستثمار الخاص في بناء المنتجعات (الكومبوندات) السكنية المستقلة، والمعزولة كاملةً عن باقي أحياء المدن، والتي تضمن توفير الخدمات المتكاملة لسكانها، فالسياسات العامة أصبحت تهدف، في المقام الأول، لحماية الأثرياء من أي تهديد محتمل من الفقراء والمهمشين. وأصبح عرض الحماية والخدمات مقتصراً على القادرين على شرائها، والنتيجة تزايد التفاوت الطبقي، والذي يصاحبه عادة استقطابٌ وتوتّر اجتماعي وسياسي.
يحكي الكاتب المصري الراحل، أحمد خالد توفيق، في روايته "يوتوبيا" (2008)، عن العصر الذي تخيله قادماً في مصر، حيث يقوم التخطيط العمراني للدولة على الفصل الكامل بين مدينة الأثرياء وأصحاب السلطة والمحاطة بسور، ويحرُسها جنود المارينز، والتي أطلق عليها في الرواية اسم "يوتوبيا" وبين باقي المناطق التي يقطنها الأغيار من الفقراء والمهمشين. في وصفه منطق تشييد مدينة يوتوبيا المعزولة، يقول أحمد خالد توفيق في روايته: "سيتركون العاصمة القديمة لتحترق بأهلها، وتندثر ظلماً وقهراً وفقراً ومرضاً، وسيذهبون إلى عاصمتهم الجديدة، حتى لا تتأذى أعينهم بكلّ ذلك الدمار". لم يعد توصيف الأبارتهايد الاجتماعي في الرواية مجرّد إطلالة أدبية من نسج خيال كاتب بارع، لكنّه أصبح واقعاً معاشاً بصور وأنماط مختلفة، وخطراً قابلاً للتحقق في عالم اليوم.