"ثورة قانونية" أم انقلاب على "القضاء المستقل" في إسرائيل؟
ما تطرحه الحكومة الإسرائيلية الحالية مما أطلقت عليه اسم "الثورة القانونية" ليس وليد أحداث اليوم، وليس مسألة متعلقة برفض القضاء وجود أرييه درعي وزيرا في الحكومة الحالية، بل هو نتاج أفكار سبق أن دعا إليها وزير العدل الحالي، ياريف لفين، مهندس الثورة القانونية الحالية، في مقال كتبه في أغسطس/ آب 2018، ونشر في العدد 211 من مجلة "هأوماه" (الأمة)، وهي فصلية للفكر القومي في إسرائيل، بعنوان "انتقال السلطة في الدولة من الشعب إلى حفنة من القضاة". كان لفين حينها وزيرا للسياحة في حكومة نتنياهو، وحمل المقال انزعاجا واضحا من تنصيب قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية أنفسهم سلطة أعلى من سلطة الشعب الذي هو في الأصل صاحب السلطة، وهي السلطة التي يمنحها الشعب لممثليه في انتخابات شعبية. هؤلاء القضاة، طبقا لرأي لفين، يضرّون ضررا بالغا بمبدأ الفصل بين السلطات الضروري في كل الديمقراطيات.
ويرى لفين في مقاله الذي يحوله اليوم إلى تطبيق فعلي أن أقلية محدودة في إسرائيل ذات توجه يساري راديكالي تصرّ، وبشكل مستمر، على إفساد ما تفرزه انتخابات الكنيست الديمقراطية من خلال فرض أيديولوجيتهم الخاصة عبر السيطرة على مؤسّسات غير منتخبة؛ بعضها أكاديمي، وبعضها إعلامي. وقبل هؤلاء نظام القضاء الذي هو جزءٌ من هذه المنظومة. ينزعج لفين من هذه الفئة التي ترى نفسها تعرف أكثر من الشعب، وأن عليها حماية الدولة من جهل الشعب، لكنها تشوّه النظام الديمقراطي، وتفرض قيما دكتاتورية، وتجعل من الكنيست والحكومة الممثلين للشعب مسرح عرائس، وتصبح محكمة العدل العليا صاحبة القوة الفعلية، وتستمر في التدخّل الدائم في عمل السلطتين، التشريعية والتنفيذية، ما يقضي عمليا على مبدأ الفصل بين السلطات.
المحكمة العليا في إسرائيل كثيرا ما تقرّر إبطال قانونٍ أقرّه الكنيست على أساس أنه يتعارض مع قانون من القوانين الأساسية
جدير بالذكر أن المحكمة العليا في إسرائيل كثيرا ما تقرّر إبطال قانونٍ أقرّه الكنيست على أساس أنه يتعارض مع قانون من القوانين الأساسية؛ وخصوصا قانون كرامة الإنسان وحريته، وهو أحد القوانين التي أقرّها الكنيست في مارس/ آذار 1992 بطرقٍ شابها جدلٌ كبيرٌ مستمرّ، وكان من القوانين التي أعطت للمحكمة العليا دورا مهيمنا، في أحيانٍ كثيرة، على ما يصدره الكنيست من تشريعات. وعادة ما تستند المحكمة في موقفها الرافض بعض ما يسنّه الكنيست من قوانين، إلى تعارضه مع قانون كرامة الإنسان وحريته، علما أن هذا القانون صدر بموافقة 32 عضوا فقط من أعضاء الكنيست، مقابل 21 عضوا، في جلسةٍ لم يحضرها سوى 53 عضوا من أعضاء الكنيست ال 120، فيما عرف حينها بالثورة الدستورية، والتي سميت بهذا الاسم نتيجة إقرار أكثر من قانون أساسي في ذلك الوقت. وبالتالي، ما نحن بصدده اليوم من ثورة قانونية ليس أمرا جديدا، ولكنه على خلاف "ثورة 1992" التي أتاحت للقضاة التدخّل بشكل واسع للغاية فيما يصدره الكنيست من تشريعات، أو فيما تقرّره الحكومة من قرارات، فإن ثورة اليوم تهدف إلى محاولة الحدّ من "تغوّل" السلطة القضائية، بل ربما السيطرة عليها أيضا.
وثمة تناقضات كثيرة تتعلق بالثورتين، القديمة والحالية، وكلتاهما لبستا ثوب القانون من أجل السيطرة على السلطات الثلاث في إسرائيل، هذه التناقضات يمكن حصرها في ثلاث ملاحظات: أولاها أن إقرار القوانين الأساسية في 1992 حدث في عهد حكومة الليكود بقيادة إسحاق شامير في ائتلافٍ كانت أحزاب اليمين صاحبة الغلبة فيه، والغريب أن عدد الأعضاء الموافقين من المعارضة على هذا القانون تحديدا، أي قانون كرامة الإنسان وحريته (32 عضوا)، كان أكثر من عدد الموافقين عليه من الائتلاف الحاكم حينها (21 عضوا)، والأغرب أن هذا القانون جاء بهندسة أمنون روبنشتاين، الذي كان أحد أعضاء الكنيست عن حزب شينوي المعارض في ذلك الوقت، ثم التحق بحركة ميرتس اليسارية بدءا من 1992. وقد تمكّن روبنشتاين من إقناع أوريئيل لين، الذي كان رئيسا للجنة القانون والدستور في الكنيست في ذلك الوقت، وكان أحد أعضاء حزب الليكود، بتقديم القانون للكنيست. والأكثر غرابة أن هذا القانون كان جزءا من قانون أكبر، حاول وزير العدل في حكومة شامير المذكورة، دان مريدور، وهو أيضا أحد أعضاء الليكود، أن يحصل على إقراره من الكنيست في عام 1989 لكنه لم ينجح. ومن هنا، حدث التنسيق بين لين وروبنشتاين ومريدور حتى تم الحصول على الموافقة على هذه القوانين، بعد تقسيم قانون مريدور إلى عدةظ قوانين صغيرة.
بحسب مشروع القانون الجديد، سيبقى عدد أعضاء اللجنة، لكن تشكيلها سيكون مختلفا
ثانيا، كتب أستاذ القانون الشهير في إسرائيل، وزير العدل عام 2007 في حكومة إيهود أولمرت، والمحسوب على التيار الليبرالي العلماني، دانيال فريدمان، "لقد تسببت الثورة القانونية في خسائر فادحة. لقد عطّلت أنظمة الحكم، وزادت من البيروقراطية، وأضرّت الديمقراطية نفسها، منحته الرقابة على الحكومة والكنيست موظفين كبارا، وفي مقدمتهم المستشار القانوني، السيطرة على الحكومة، بل والسيطرة على الكنيست أيضا أحيانا". كان فريدمان مدافعا قويا عن المحكمة العليا ضد هجوم "الحريديم" عليها، غير أنه تحوّل إلى انتقاد النظام القضائي في إسرائيل وسعيه إلى توسيع سلطته، ما يعرّض الأمن القومي الإسرائيلي للخطر. ولذلك، كان من الداعين إلى تقليص المراجعة القضائية للقوانين التي يسنّها الكنيست، ويعارض كذلك إلغاء قرارات الحكومة التي لا تتعارض مع القانون، مع ضرورة احترام قرارات المحاكم في الوقت نفسه.
ثالثا، الطريف هنا أن حزب الليكود، ومعه أحزاب يمينية عدّة، هم الذين أسهموا في منح سلطات واسعة للمحكمة العليا سابقا، بالموافقة على قانون كرامة الإنسان وحريته، وهم أنفسهم (وإن تغير الأشخاص) من يسعون اليوم إلى تقليص سلطات هذه المحكمة عن طريق تقديم مقترح بقانون أساسي، يهدف إلى تعزيز الفصل بين السلطات حسب زعمهم، والذي يتضمّن تغيير تشكيل لجنة تعيين القضاة، ومنع المراجعة القضائية للقوانين الأساسية، وأن تعمل المحكمة العليا تبعا للقانون الأساسي، لا أن تكون فوقه، وأن يكون إبطال المحكمة العليا القوانين بتشكيل مكتمل، وبأغلبية خاصة، وأن يكون المستشار القانوني للحكومة تابعا لها، وليس العكس.
أكثر ما يهمّ الحكومة الإسرائيلية اليوم هو تغيير تشكيل لجنة اختيار القضاة. وطبقا لقانون السلطة القضائية الذي أقرّه الكنيست ضمن قانون أساسي عام 1984، تتكوّن هذه اللجنة من تسعة أشخاص: رئيس المحكمة العليا، وقاضيين آخرين منها، يختارهما أعضاء المحكمة نفسها، وزير العدل ويكون رئيسا للجنة، ووزير آخر تحدّده الحكومة، وعضوين من الكنيست يختارهما الكنيست، وممثلين عن نقابة المحامين، ينتخبهما المجلس الوطني للنقابة.
قضية الفصل بين السلطات تمثل أزمة كبيرة في إسرائيل؛ فمعروفٌ أنه لا فصل بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية
وبحسب مشروع القانون الجديد، سيبقى عدد أعضاء اللجنة، لكن تشكيلها سيكون مختلفا؛ سيكون هناك ثلاثة ممثلين عن السلطة القضائية: رئيس المحكمة العليا، وقاضيان متقاعدان يختارهما وزير العدل بموافقة رئيس المحكمة العليا، وثلاثة ممثلين عن السلطة التنفيذية، وزير العدل، ووزيران آخران تختارهما الحكومة، وثلاثة ممثلين عن الكنيست، رئيس اللجنة القانونية والدستورية، وعضوان آخران أحدهما من الائتلاف الحاكم والآخر من المعارضة، وهذا يعني إلغاء تمثيل نقابة المحامين في اللجنة.
وإذا كان التطبيق العملي في العقود الماضية قد أعطى للسلطة القضائية، ممثلة في المحكمة العليا، أو في المستشار القانوني للحكومة، هيمنة فوق السلطتين التشريعية والتنفيذية استنادا إلى قانون كرامة الإنسان وحريته (رغم ما شابه من جدل على النحو المشار إليه)، وليس لقانون السلطة القضائية الصادر عام 1984، وهو أحد القوانين الأساسية في إسرائيل، فإن القانون المقترح يجعل السلطة التنفيذية في إسرائيل تتحكّم بشكل كامل في السلطة القضائية من خلال تشكيل لجنة تعيين القضاة، وهو تشكيل يجعل أغلبية اللجنة (خمسة أعضاء) تابعين للائتلاف الذي يحكم والذي بدوره يمثل السلطة التنفيذية، فضلا عن احتمالية مساومة وزير العدل في تعيين قاضيين من الثلاثة.
والحقيقة أن قضية الفصل بين السلطات تمثل أزمة كبيرة في إسرائيل؛ فمعروفٌ أنه لا فصل بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية، وتُثبت التجارب العملية منذ تأسيس إسرائيل أن أغلب الوزراء دائما ما يكونون أعضاء في الكنيست، وهذا بالطبع مزج كامل بين السلطتين. وفي الوقت نفسه، لا تتوقّف السلطة القضائية عن التدخّل في قرارات الحكومة، أو فيما يصدره الكنيست من قوانين، وهذا بالتأكيد يضعف السلطات الثلاث معا، ويؤثر سلبا على الدولة.
ما أطلقت عليه الحكومة الإسرائيلية تسمية الثورة القانونية اعتبرته المعارضة انقلابا على القانون، ومحاولة لإضعاف السلطة القضائية والسيطرة عليها. أما الأسئلة التي تحتاج إجابة فتتعلق بما تمتلكه المعارضة من أوراقٍ، يمكن أن تضغط بها من أجل إيقاف هذا الانقلاب، ومدى احتمال أن يتراجع نتنياهو وقوى الائتلاف عن ثورتهم، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك في إسرائيل ومستقبلها ..