ثالوث حميدتي وبريغوجين وحفتر
إذا صحّت الأنباء عن تفاوض متزّعم قوات الدعم السريع في السودان محمد حمدان دقلو (حميدتي) للاستسلام، فذلك يعني أن ظاهرة متزّعمي المليشيات الطامحين للعب أدوار سياسية متقدّمة أصابها اهتزاز كبير، وذاهبةٌ إلى أفول تدريجي... أذاع الأنباء عن عرض الاستسلام رئيس حزب الأمة السوداني مبارك الفاضل المهدي، قائلا إن الرجل الثاني في المليشيا عبد الرحيم دقلو، وهو شقيق حميدتي وذراعه اليمنى، قد عرض استسلام عناصره مقابل الخروج الآمن، وضمان أن تتمتع هذه القوات بدور عسكري وسياسي مهم في الفترة المقبلة. وأفاد المهدي بأن عبد الرحيم التقى في مدينة أم جرس التشادية مندوباً أميركياً وآخر كينياً وثالثاً خليجياً؛ كلا منهم على حدة، ونقل إليهم رغبة "الدعم السريع" هذه.
وفي واقع الأمر أن "صمود" قوات التدخل السريع نحو مائة يوم في مواجهة الجيش السوداني أثار علامات استفهام، لاختلال الميزان العسكري لصالح القوات المسلحة، وأن صفة السريع التي تحملها قوات التدخّل هذه مردّها إلى أنها تستخدم سيارات نصف نقل صغيرة نسبيا يمكنها أن تعبر مسرعة أزقة وشوارع ضيقة ومرتفعات، ولا يعود الأمر إلى تجهيزات متقدّمة تحوزها هذه العناصر تتيح لها التدخل أو التأثير السريع في مجريات الأحداث. ما يسمح باستنتاج أن هذه المليشيا تلقّت دعماً مهما من الأسلحة والمعداّت عبر ميناء بورتسودان من خلال حلفاء لحميدتي، أبرزهم زعيم مرتزقة فاغنر يفغيني بريغوجين، وقائد قوات شرق ليبيا الجنرال خليفة حفتر. علاوة على أن الرجل (حميدتي) أخذ بيوت الناس والمستشفيات والمدارس مراكز له، وأقام نقاطا له وسط أحياء، ما جعل مسألة مواجهته محفوفة بمخاطر إيقاع خسائر كبيرة في صفوف المدنيين وممتلكاتهم... وقد استبعد مبارك الفاضل تلبية شرط حميدتي بالتمتّع بموقع عسكري وسياسي مهم مستقبلاً، مرجّحا أن يُسمح له ولقياداته بخروج آمن فحسب، بعد أن خسر رهانه بالاستيلاء على الحكم.
"صمود" قوات التدخل السريع نحو مائة يوم في مواجهة الجيش السوداني أثار علامات استفهام، لاختلال الميزان العسكري لصالح القوات المسلحة
وقد شاءت الظروف أن يتمرّد متزعّم مليشيا آخر، بريغوجين، على قيادة جيش بلاده، بالتزامن مع تمرّد حميدتي على شريكه عبد الفتاح البرهان في الاستئثار بحكم السودان، فزعيم "فاغنر" القادم من عالم الجريمة والمطابخ يرى نفسه ذا كفاءة أفضل من جنرالات الجيش الروسي. وقد أُجهض تمرّده بسهولة، رغم أنه شقّ طريقه بسهولة إلى موسكو، وذلك لأنه افتقد تصوّرا واضحا عن نهاية تمرّده حتى لو نجح هذا التمرّد، وهو ما التقطه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي توسّط لإنهاء التمرّد، وقد انتقلت، بموجب الاتفاق، قوات من "فاغنر" إلى روسيا البيضاء، وها هي القيادة البيلاروسية تتحدّث عن نقل بريغوجين خبرات قواته إلى جيش بيلاروسيا، بل أخذ مسؤولون من هذا البلد يصرّحون بأن قوات من "فاغنر" ومن الجيش البيلاروسي تقف على حدود بولندا، وهو بلدٌ عضو في حلف شمال الأطلسي، وسوف تسارع قوات الحلف لنجدته في حال تعرّضه لأي اعتداء. وضع ينبئ بأن أية محاولة لخلط الأوراق لدعم الموقف العسكري الروسي في أوكرانيا سوف تُنذر بمخاطر جسيمة، باعتبار روسيا البيضاء باتت ساحةً خلفية لروسيا، وأحد المراكز المهمّة لعمليّاتها في أوكرانيا.
ولافتٌ أنه بعد انتهاء تمرّد "فاغنر" واختفاء متزعم المليشيا مدة، ظلت الدوائر الرسمية الروسية تنعت طبّاخ بوتين السابق بالخيانة والطعن في الظهر، ودوهمت قصور له، وصودرت كميات طائلة من المعادن النفسية والعملات الأجنبية، بالإضافة إلى جوازات سفر مزوّرة تعود للرجل بأسماء مزيّفة مع تغييرات في ملامح الوجه وشعر الرأس، وكما الحال في عالم العصابات. مع ذلك، أعربت دوائر موسكو عن الحاجة للاحتفاظ بقوات فاغنر التي تعتمد أساسا على الارتزاق، وعلى عدم احترام قواعد الحرب، مع تنحية بريغوجين، أو الإبقاء عليه زعيما للقوات في مناطق محدّدة، منها بيلاروسيا ودول أفريقية. وقد أعلن بريغوجين أن قوات تتبع له سوف تتوجه إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، وهو ما أكّده متحدّثون من هذا البلد. وهكذا، ما زالت الحاجة قائمة لـ"الخائن والطاعن في الظهر" ولقواته، فيما تتحدّث مصادر قضائية في موسكو عن أن ملفّ تمرّد بريغوجين قد جمّد إلى حين، ولم يُغلق. ومغزى ذلك أنه سوف يُستخدم من موقعه الجديد في بيلاروسيا وقتا إضافيا (إلى أن تجد الحرب على أوكرانيا نهاية لها، مثلاً)، فيما سيُصار إلى تعيين جنرال من المؤسّسة العسكرية لقيادة هذه المليشيات بدلا منه في موسكو. وهكذا، لم تلبث حال التخبّط التي ألمّت بمتزعم "فاغنر" أن اتنقلت إلى موسكو ودوائرها الرسمية، وهو ما يفعله الاعتماد على المليشيات ومنطق قيامها وطبيعة وظائفها في اهتزاز صورة الدولة.
حفتر وعائلته من أكبر المستفيدين من الأزمة الليبية المديدة، غير أن صورة الرجل باتت تهتزّ أكثر فأكثر، باعتباره من أكبر المعيقين لإنتاج حلول سياسية للأزمة
وليس غريبا خلال ذلك أن يحظى الجنرال خليفة حفتر في ليبيا بدعم قوات من "فاغنر"، بعضها ما زال على الأراضي الليبية، ويُستخدم للضغط على مؤسّسات الدولة في طرابلس، وفي التهديد بشنّ عمليات عسكرية في أي وقت لصالح حفتر، فضلا عن التحكّم بإنتاج النفط، ما يجعل حفتر وعائلته من أكبر المستفيدين من الأزمة الليبية المديدة، غير أن صورة الرجل باتت تهتزّ أكثر فأكثر، باعتباره من أكبر المعيقين لإنتاج حلول سياسية للأزمة. ومع انكشاف علاقته بـ"فاغنر" ومتزّعمها، وبعدما أصاب هذه المليشيا من اهتزاز، ينعكس الأمر على حفتر نفسه الذي يصرّ على الترشّح لانتخابات الرئاسة في بلده بجنسيته الأميركية.
هكذا تبدو صور المتحالفين الثلاثة، حميدتي وبريغوجين وحفتر، قد لحقها اهتزاز شديد، باعتبارهم يمثلون شريحة مسلّحة رديفة لبعض الأنظمة والدول، ويسعى أصحابها إلى لعب أدوار عسكرية وسياسية كبيرة، لكن هؤلاء يصطدمون، في منعطفٍ ما، بصانعيهم أو تنتفي الحاجة في ظرفٍ ما إلى خدماتهم.