تونس واللاعب الوحيد في الميدان
في سكون الليل، وقد أطفأت كل المؤسّسات الحكومية أنوارها وأبوابها، وخلد الجميع إلى النوم، ما عدا رئيس الدولة الذي قرّر في فجر يوم الأربعاء إقالة نجلاء بودن، وتعيين أحمد الحشاني رئيسا جديدا للحكومة وقد كان جاهزا لأداء اليمين في تلك الساعة المتأخرة.
في ظلال حكم الرئيس قيس سعيّد، يعيش التونسيون طقوسا جديدة لم يعرفوها من قبل، قبل الثورة وبعدها. ففي وقت قريب كانت الأوساط السياسية تعلم في الغالب أن تغييرا هاما على رأس الحكومة أصبح وشيكا، وبناء عليه، يتم تداول بعض الأسماء المرشّحة لهذا المنصب. كما تتهيأ الأحزاب لإجراء مشاورات داخلها وفيما بينها، وبشأن الذي يجب أن يحظى بالأغلبية ويقدّم ملامح من برنامجه السياسي. تغيّرت المقاييس والطقوس بموجب الدستور الجديد، فالرئيس وحده يختار، ويعين، ويأمر الشخص المكلف بالشروع مباشرة في مهامه الجديدة. لا مجال لما يعتبره بعضهم "وقتا ضائعا". إنه حكم الفرد بكل المقاييس. الرئيس ليس مطالبا باستشارة أحد كما ذهب الظن ببعض المساندين له، فقد استغرب أحد المسؤولين في حركة الشعب تدخّل الرئيس في أعمال مجلس النواب. كما توهّمت الحركة أنه سيستأنس برأيها في اختيار بديل لرئاسة الحكومة. وهذا دليلٌ على أن أنصار الرئيس المنتمين إلى أحزاب لا يزالون يعتقدون أنهم شركاء في السلطة، ولم يقتنعوا بعد بأنهم جزء من الديكور، وأن فلسفة الحكم الفردي لا تعترف لهم بأي أهلية أو صلاحية تسمح لهم بأيٍّ من أشكال الشراكة في إدارة الشأن العام.
طويت صفحة السيدة بودن، وشرعت الأطراف القريبة من رأس النظام في تحميلها مسؤولية الفشل، في حين يعلم الجميع أنها أدّت المهمة التي كلفت بها رغم عدم قدرتها على ذلك. كان فشلها منتظرا منذ البداية، وتقتضي الموضوعية القول إن فشلها هو فشل الرئيس، لأنها عمليا حكومته، هو المسؤول عن وضع السياسات والحكومة تنفّذ لا غير.
ضاعت سنتان من عمر هذا الشعب الذي ظنّت أغلبيته أن الأوضاع بعد 25 جويلية (25 يوليو/ تموز 2021) ستكون مختلفة عما كانت عليه من قبل، لكن ما حصل العكس تماما، حيث تراجعت جميع المؤشّرات. رغم ذلك، اختار سعيّد رئيسا للحكومة بعيدا عن الشأن السياسي، وعن جميع الأحزاب، ولم يُعرف أن له تصوّرا اقتصاديا من شأنه أن يساعد على تخفيف حدّة الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد. رأسماله الأساسي حصوله على ثقة الرئيس. ولكن هل يكفي ذلك وحده لإنهاء هذا الكابوس الجاثم على الصدور، وإخراج التونسيين من شحّ الموارد وغلاء المعيشة.
لا يتحمّل رئيس الحكومة تاريخ والده، فلكل منهما طريقه واختياراته. وإذا كان الأب قد اختلف مع الرئيس بورقيبة، ووجد نفسه برتبته العسكرية ضمن قائمة الذين جرى اتهامهم بالتآمر على أمن الدولة، ونفذ فيه حكم الإعدام، فان السياق اليوم مختلف. فما حدث في الماضي لا يجوز اتّخاذه ذريعة لمنع الابن من تحمّل مسؤولية حكومية. ليس الإشكال في تاريخه العائلي، ولكن في عدم قدرته على إدارة شؤون الدولة، وهو الذي لم يمارس في حياته مهمة لها علاقة بالشأن العام، وبالأخص بالجوانب المالية والاقتصادية التي تحتلّ الأولوية القصوى في المرحلة الحالية.
في هذا المنعرج الخطير، يختار الرئيس مواصلة السير في السياق نفسه، غير عابئ بالتحدّيات التي تواجه الدولة. لا ينوي تغيير الاتجاه، رغم أن وزير الاقتصاد، وهو ابن عمه، كان صريحا وواضحا عندما تحدّث في البرلمان، وأعلن أن لا حل لتونس سوى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وأن الحلول التي جرى التوصل إليها لم تكن مملاة من الصندوق، وإنما قدّمتها الحكومة، وأن تونس هي التي ذهبت إلى الصندوق، وليس العكس. ومن له بديل يتقدّم به. كان موقفا متعارضا تماما مع رؤية الرئيس، الذي لم يعلّق على ذلك، وفضّل مواصلة التخبّط في المأزق نفسه، فهل تحمل الأيام المقبلة شيئا من الوضوح والأمل؟