تونس .. احتباس ديمقراطي وغضب اجتماعي وتأزم اقتصادي
منذ اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية في مجموعة من المدن التونسية، تزامنا مع إحياء الذكرى العاشرة لثورة الياسمين، شهدت الساحة السياسة جدلا قويا بخصوص الواقفين وراء هذه الأحداث أو الداعين لها والمتسببين فيها، والمنحى الذي سارت فيه، والشعارات التي رفعتها، والفئات التي شاركت فيها، والمآل الذي آلت إليه. وهناك من رأى في ما وقع تعبيرا مشروعا وصارخا عن انسداد الآفاق والإحباط السياسي العام وانعدام الأمل والحلم اجتماعيا واقتصاديا، وارتفاع معدل البطالة واتساع دائرة الفقر، فكل واحد من أصل ثلاثة شبان في تونس يرغب في الهجرة.
وحسب استطلاع للرأي، أجرته مؤسسة سيغما كونساي، بالتعاون مع صحيفة المغرب، المستقلة، في فبراير/ شباط الحالي، ارتفع مستوى التشاؤم بشكل حادّ ولافت، حيث وصل إلى حوالي 90%. ويعكس هذا المؤشر، أيضا، حالة الخوف الشديد من المستقبل، ومن الانعكاسات السلبية للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والصحية على مختلف الطبقات الاجتماعية والفئات العمرية، وخصوصا الشباب. واستنادا إلى الاستطلاع نفسه، فإن تونس تسير في الاتجاه غير الصحيح، في ظل حالة الجمود والانتظارية القاتلة، بسبب عدم حل مشكلات مرتبطة بمكافحة البطالة، وتحسين الوضع الاقتصادي، والقدرة الشرائية والحد من استشراء ظاهرة الفقر، والنهوض بالخدمات الصحية والتعليمية. وتعتبر العينة التي تم استطلاعها هذه المطالب أولويات أساسية. وقد كشف الاستطلاع انعدام الثقة بشكل شبه كلي في الشخصيات السياسية، وفي طليعتها رئيس حركة النهضة، رئيس مجلس النواب، راشد الغنوشي، حيث لا يحظى بثقة ثلاثة أرباع التونسيين. وشمل الاستطلاع سحب الثقة أيضا من قادة أحزاب من مختلف المشارب والمرجعيات، ما يدل على رفض شرائح واسعة من المجتمع التونسي العروض السياسية الموجودة في الساحة، وطريقة اشتغال الأحزاب وتعاطيها مع انتظارات المواطنين، الذين يعتبرونها بعيدة عن انشغالاتهم وهمومهم. وتبقى نسبة الثقة عالية في المؤسستين، العسكرية والأمنية، ومؤسسة رئاسة الجمهورية.
شبيبة يائسة ومغتربة وتائهة سياسيا وفكريا وتربويا
وبدا واضحا منذ انفجار موجة الاحتجاجات الاجتماعية أخيرا أن هناك صراعا قويا بين شتى الفاعلين، وتأويلات سياسوية لما حدث، فعوض جنوح الدولة إلى احتواء المظاهرات وأعمال العنف كما يحدث في الدول الديمقراطية للحيلولة دون وقوع فلتان أو انحرافات، من شأنها أن تتحول إلى فوضى وأعمال شغب، وقادرة على إرباك الوضع الأمني، وتشتيت تركيز الفاعلين السياسيين المشدودين إلى التموقعات والصراعات والاستقطابات، بدلا من هذا نجدها (الدولة) اختارت المقاربة الأمنية، مستندة إلى حزمة تبريرات، أبرزها توجسّها من وجود مخططات لزعزعة استقرار البلاد وتأمين أجواء وشروط مثالية لنسف ما بني على امتداد عشر سنوات.
ما تذرّعت به الحكومة ومؤسسات الدولة لم يمنع حساسيات سياسية ونقابية، ذات مرجعية يسارية، في انتقاد المقاربة الأمنية للحكومة، وتشدّدها في التعاطي مع شبيبة يائسة ومغتربة وتائهة سياسيا وفكريا وتربويا، خصوصا أن الأزمة الصحية بسبب جائحة كورونا، وما رافقها منذ حوالي سنة من إجراءات، أثرت، بشكل قوي، على الاقتصاد والتعليم والثقافة والمجتمع، وأفرزت حالات ذهنية مضطربة، ومشاعر من التوتر والتشنج، نتيجة وضعية الحصار والحجر الصحي، والتزام المنازل وإغلاق فضاءات الترفيه، رياضية وثقافية وفنية واجتماعية وسياحية.
غياب سلطة تحكيمية، ممثلة في المحكمة الدستورية، عمّق الصراعات وفتح باب تأويل الصلاحيات والاختصاصات على مصراعيه
كانت الحكومة التونسية صارمة، ولم تترك فرصة لتأويلات أو تفسيرات متريثة ومتزنة، غير وصف ما وقع بأنه أحداث شغب مدبرة، ركبت عليها أطرافٌ تسعى إلى المساس بالأمن العام وبالاستقرار، ومعادية للثورة، ولما سارت فيه الدولة التونسية ومؤسساتها، وما تبنّته من اختيارات سياسية واجتماعية وتشريعية، وما راكمته من إنجازات مفصلية في مجالات عدة، خصوصا في التأسيس للانتقال الديمقراطي، بما في ذلك بلورة وثيقة دستورية متقدّمة سنة 2014. ولعل ما ذهب إليه وزير الدفاع، إبراهيم البرتاجي، عندما حذر من خطورة استغلال جماعات إرهابية لخرق حظر التجول ليلا، لتنفيذ مخططاتٍ لزعزعة استقرار البلاد، خير مؤشّر على حجم التخوّف الذي انتاب الحكومة، وهو على الأرجح ما جعلها ترفع من حدّة خطابها، وتلجأ إلى لغة العصا، لتجد نفسها في الموقع الذي عادة ما توجد فيه أنظمة غير ديمقراطية في المنطقة العربية، علما أن التجربة التونسية نظر إليها أنها استثناء في فسيفساء ثورات الربيع العربي، وأن الحكومة منتخبة بشكل ديمقراطي، ووصلت إلى السلطة بتفويض شعبي. وتبعا لذلك، فإنها عندما تجابه شرائح غاضبة وساخطة بالعنف والاعتقالات والمتابعات القضائية، فإنها تتنصل من التزاماتها الانتخابية، ومن تعاقداتها الأخلاقية تجاه الجماهير التي منحتها أصواتها. ليس هناك أدنى شك في أن الثورة التونسية، على الرغم من أنها انطلقت عفوية، حققت جملة من التحولات العميقة التي طاولت مختلف البنيات والمؤسسات والهياكل. وكان أكبر إنجاز هو إسقاط النظام السابق، واعتماد دستور جديد، ورسم معالم مسار ديمقراطي واعد، وترسيخ مبادئ الحرية بكل أنواعها، حيث شعر المواطنون لأول مرة بكرامتهم، غير أن التجربة الديمقراطية، أو على الأصح الانتقال الديمقراطي في تونس، وعلى الرغم مما فجرته من أحلام وتطلعات، وما جسّدته من آمال، وما أحدثته من تغييرات على الأرض، لم تتمكّن من الخروج من حالة التردّد والارتهان والتجاذبات والاستقطاب الحاد، بين مكونات النسق الحزبي ومؤسسات الدولة، وبين رئاستي الجمهورية والحكومة.
وقد عكست مسألة التعديل الوزاري الذي قرّره رئيس الحكومة، هشام المشيشي، النقطة التي أفاضت الكأس، وكشفت وجود هوة سحيقة بينه وبين رئيس الجمهورية، قيس سعيد، الذي استعمل "فيتو" صلاحياته، ليرفض قبول أداء بعض الوزراء اليمين الدستورية أمامه، معللا موقفه بوجود شبهاتٍ تحوم حولهم. وبصرف النظر عن حرب الصلاحيات والاختصاصات بين رئيسي الجمهورية والحكومة، فإن منطق كسر العظام المعتمد حاليا في هذا الفصل من التدافع السياسي المتوتر، وحسب العارفين بخبايا السياسة الداخلية لتونس، لا علاقة له بوجود وزراء فاسدين، وإنما المشكل أن رئيس الجمهورية عبّر عن رفضه التعديل الوزاري منذ البداية، علما أنه الذي اختار المشيشي، ليقود عملية الإصلاحات والتغييرات المنشودة. ولكن صراع المواقع، ووجود حرب خفية بين الغنوشي وسعيد الذي ربما فهم أن السياسة بالنسبة لحركة النهضة هي سلسلة من المناورات، تعد الناس كما تشاء، وتبرر الإكراهات والتحالفات السياسية وفق منطق براغماتي، وتوظف الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وفق ما يضمن مصالحها. وهذا ربما ما أجج الخلافات، ودفع الرئيس إلى قراءة التعديل الوزاري، وما أفرزه من تداعيات وتطورات، بأنه حرب بالوكالة يخوضها رئيس الحكومة نيابة عن "النهضة" التي أصبح رهينة لها. وتفيد عدة جهات بأن الغنوشي متحكّم في كل مفاصل حركة النهضة التي تشكل مكونا أساسيا في ما بات يعرف بالحزام السياسي لحكومة المشيشي.
خلل بنيوي في توازن السلطات والمؤسسات، وفي طريقة إدارة الخلافات، وفي هندسة مسارات الانتقال الديمقراطي
تدل هذه الأزمة السياسية الحالية في تونس على وجود خلل بنيوي في توازن السلطات والمؤسسات، وفي طريقة إدارة الصراعات والخلافات، وفي هندسة مسارات الانتقال الديمقراطي. ويسود الاعتقاد بأن غياب سلطة تحكيمية، ممثلة في المحكمة الدستورية، عمّق الصراعات وفتح باب تأويل الصلاحيات والاختصاصات على مصراعيه. لذلك يعتبر فقهاء القانون الدستوري ومعظم الفاعلين السياسيين والنقابيين والنخب الثقافية ومكونات المجتمع المدني التونسي أن تأليف هذه المحكمة أصبح أولوية وطنية ذات طابع استعجالي، علما أن مشروع قانون أساسي متعلق بها أعد سنة 2015، وتم إعداد مقترح قانون أساسي جديد قبل نهاية 2020. لكن الأمور ما زالت تراوح مكانها، في خضم احتقان الأوضاع الاجتماعية، وتراجع الأنشطة الاقتصادية واحتداد الصراعات، وفي غياب بلورة أرضية حد أدنى لحوار وطني جدّي ومسؤول لتغيير المنظومة السائدة، وليس لاقتسام غنائم السلطة، وكفيل بتضميد الجراح، وتحقيق مصالحات وإصلاحات كبرى وعميقة، تعيد الثقة إلى فلسفة ثورة الياسمين وأهدافها، وإلى مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية والمنظمات النقابية.
إلى جانب الأزمات الداخلية المركبة، هناك مخاطر إقليمية، خصوصا القادمة من دول الجوار، ففرقاء الأزمة في ليبيا، على الرغم من اختيار ملتقى الحوار السياسي الليبي تشكيل حكومة مؤقتة عبر التصويت، مطالبون ببذل جهود كبيرة، بهدف صياغة أرضية صلبة للاستقرار والأمن بمفهومهما الواسع، عبر تفاهمات واتفاقات مرنة وذات مناعة ومصداقية. الشيء الذي يطرح على السلطة التنفيذية الوليدة إطلاق عملية مصالحة وطنية شاملة، تقوم على مبادئ العدالة الانتقالية، وتعزيز ثقافة التسامح، ودعم اتفاق وقف إطلاق النار بصورة كاملة، وهذه الخطوة تتطلب إجراءات حازمة، سيما ما يتعلق بفتح الطريق الساحلي، وانسحاب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة. وبحكم التماس والجوار الجغرافي بين تونس وليبيا، فإنّ استمرار تردي الأوضاع في ليبيا وإجهاض مبادرات المصالحة سينعكسان، مباشرة، على الاستقرار والأمن في تونس، وعلى عافيتها الاقتصادية وأنشطتها التجارية والسياحية.