تنظيم الدولة "الأميركية" باقٍ ويتمدّد

12 فبراير 2022
+ الخط -

لماذا قرّرت شركة الولايات المتحدة المساهمة المحدودة سحب منتجها من طراز "داعش" من الأسواق العالمية بغتة، على الرغم من أنه صنفٌ حاز رواجًا مهولًا من "الزبائن"، لا سيما من بعض الأنظمة العربية، مثل ما درّ ربحًا وفيرًا على "المساهمين"، وما أكثرهم، خصوصًا أنهم لم يحلموا البتة بعوائده، ليس المالية فقط، بل لأنه "العدوّ المخترع"، الذي كان مطلوبًا بشدة؛ لشرعنة التدخل في المنطقة، ورسم مصائرها كما يحلو لهم؟

هل اكتشفوا عيبًا مصنعيًّا أوجب سحب المنتج، مثلًا؟ يذهب مطلعون هذا المذهب؛ ويحدّدون العيب بالكوابح. ويزعمون أن "الشركة" لم تتقن تصميمها جيدًا عندما جعلتها كوابح ذاتية تعتمد على تعهد داعشي بعدم تجاوز "الخطوط الحمراء"، فعندما بدأ التفكير في الاختراع، كان المطلوب منتجًا يعرف الحدود المرسومة له جيدًا. طُلب منه أن يكون أنموذجًا يختصر الإسلام بالسيف والحزام الناسف .. تنظيمًا عدميًّا، يعتنق التوحش كأيديولوجيا لبلوغ مآربه، وليس الهدف إعادة الخلافة الإسلامية، بل إلى ما قبل الإسلام. كان التوجه، هذه المرّة، ليس إلى الذهن الغربي لإرساء صورة داعشية للإسلام، فهو لا يحتاجها أصلًا لأنه مشبع بمثل هذه الصور منذ عقود، بل إلى الذهن العربي أولًا، وإلى الذهن الإسلامي ثانيًا. كانوا يريدون تظهير صورة للإسلام مغايرةٍ للصورة الأولى؛ لزعزعة ثقة الطرفين به. وللحقّ، أثمر هذا التخطيط الماكر بداية، لا سيما عندما تزامنت صناعة المنتج مع ثورات الربيع العربي، خصوصًا في سورية والعراق، فبدا وكأن "داعش" هو نتاج هذه الثورات وحصيلتها، ومآلها النهائيّ، وهو ما أسهم في إجهاض هذه الثورات، عندما بدأت الشعوب تنفضّ من حولها، بعدما رأت ما اعتقدت أنه "نهاية الطريق"، ممثلًا بمصير دمويّ، وتراجع إلى الخلف بدل التقدم إلى الأمام.

كان ثمّة اتفاق مع "المساهمين" في الشركة، الذين ازداد عددهم عندما رأوا جودة "المنتج"، ومعظمهم من طغاة العرب الجاثمين على عروش السلطة، فقد وجدوا في "داعش" مخرجًا للأزمة التي عصفت بهم مع ثورات الربيع التي أطاحت عددًا منهم، فراحوا يتخبّطون على غير هدى، بحثًا عن خلاصٍ يقيهم لعنة شعوبهم، حتى جاء منتج شركة الولايات المتحدة، باتفاق معهم، لتشكيل هذا التنظيم ودعمه، وإمداده بالمال والسلاح، ومدّه بموجات من المقاتلين ذوي الأدمغة المغسولة، ممن يعتقدون أنهم يخوضون حروبًا مقدّسة لصالح الإسلام والمسلمين، فكانت النتيجة انكفاء الشعوب العربية التي راجت بينها مقولة "نار الأنظمة الحاكمة ولا جنة داعش". بينما وجدت الشركة الأمّ في هذا المنتج فرصتها لتمتين قبضتها على "المساهمين" من طغاة العرب، تمهيدًا لجرّهم إلى أتون التطبيع، وتسهيل اندماج إسرائيل في المنطقة، والإجهاز على أيّ بارقة أمل بالوحدة واستعادة الكرامة والثقة بالنفس.

على هذا النحو، جرى ترويج المنتج، لولا عيب الكوابح عقب انتهاء المهمة الرئيسة أو مقاربتها على ذلك، فبعد انكفاء الشعوب، وما تلاه من فرص سانحة للأنظمة العربية في استغلال هذا الانكفاء لتجريد حملة "التطبيع"، طُلب من المنتج أن ينحسر قليلًا، بالتخلّي عن "دولته" التي تمدّدت في العراق، وعن أجزاء منها في سورية أيضًا، غير أن الكوابح "تعطّلت"، عندما بدأ المنتج يحاول التحرّك بقوة الدفع الذاتي، لا سيما بعد أن تذوق نكهة السلطة و"الدولة"، وقادت هذا التحرّك رؤوس في هرم التنظيم، على غرار أبو بكر البغدادي وعبد الله قرداش.

آنذاك، كان لا بدّ من تدخل الشركة الصانعة لسحب المنتج، فجرت إطاحة رأس البغدادي أولًا، وتلاه قبل أيام رأس قرداش، اللذين تمرّدا على الشروط، كما يبدو. ولعلّ مثار السخرية في عمليتي الاغتيال هو هذا الكمّ الهائل من استعراض بطولات الدولة الأقوى في العالم ومساهميها في "الحرب العالمية" ضد رجل واحد لم يكن أزيد من "منتج" مرصود التاريخ والجغرافية، ومرقوب الحركات والسكنات.. فهنيئًا للشركة على هذا "الانتصار المبين".

غير أننا لم نزل نتحدّث عن عملية "سحب" فقط للمنتج، ولم نذكر شيئًا عن عملية "التعديل"؛ لأن المنتج "باقٍ وسيتمدّد" كما خطّطت له الشركة الصانعة تمامًا، لكن وفق مشيئتها، وفي الظروف التي تختارها هي، لا ما يختاره تنظيم الدولة "الأميركية".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.