تمزيق الدولة العراقية
في كلّ القرارات التي اتّخذتها قوى "الإطارالتنسيقي" (الشيعي) في العراق، أو التي تُحاول فرضها، كما هو مُقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية، المثير للجدل، ينبري برلمانيون من هذه القوى، أو مُدوّنون مُوالون لهم، بالهتاف أنّه رأيُ الأغلبيةِ، وحقّها.
يمكن أن نأخذ التظاهرات التي خرجت ضدّ مقترح التعديل، وفي مدينة النجف نفسها معقل المؤسّسة الدينية الشيعية الأبرز، مثالاً على رفض قطاعات من هذا المجتمع، الذي يدّعي الإطاريون تمثيله، لهذه القرارات المُخرّبة نسيجَ المجتمع العراقي، التي تثير الفتنة والفرقة ولا تنفع أحداً بشيء.
ولكن، دعنا من هذا، ولننظر إلى "حقّ تمثيل الأغلبية". وهو أمرٌ مررنا عليه كثيراً، ولكنّه غير واضحٍ عند المُتحمسين للقرارات الطائفية، أو يتجاهلونه عمداً. الأمر الأوضح من الشمس أنّه، في النُظم الديمقراطية، لا توجد كياناتٌ سياسيةٌ تمثّل جماعةً سكّانيةً بشكل تلقائي، وإنّما من خلال صناديق الاقتراع، وهذه الصناديق تحتكم إلى الإرادة الشعبية المُتغيّرة والمتحوّلة حسب الظروف، وحسب تفاعل الناخبين مع وعود (أو إنجازات) النُخَبِ السياسيةِ التي تُمسك بالسلطتين التشريعية والتنفيذية. أي أنّ الشعب يمنح تفويضاً مُؤقَّتاً في مدى الدورة البرلمانية وحسب.
ثمّ إنّ الأكثريةَ السياسيةَ لا تعني، بشكل تلقائي، الأكثريةَ الديمغرافيةَ، كما أنّ الكتلةَ السياسيةَ، أو التحالفَ البرلماني، الذي ينتمي أعضاؤه إلى مُكوّنٍ طائفيٍّ أو عرقي مُحدَّدٍ، لا يمنحه حقّ تمثيل الطائفة أو العِرق، إنّه يُمثّل ناخبيه، وهم جزءٌ من مجتمع الطائفة أو العِرق.
تحاول التيّارات السياسية الذكية والحكومات المُستندة إليها غالباً توسيع قاعدة شرعيتها من خلال الحرص على تمثيل مختلف الاتجاهات والتيّارات في الجماعة السكّانية التي تنشط فيها، لا أن تُلقي قنابلَ داخل نسيجها الاجتماعي، وتفتح في كلّ مناسبةٍ فرصةً للاحتراب الأهلي داخل هذه الجماعة.
إن كانت القوى السياسية الشيعية حريصةً على تمثيل المجتمع الشيعي العراقي، فإنّها ستكون معنيةً بسماع مُختلف الأصوات التي تُعارض سياساتها الطائفية والأصولية، التي تُرجِعُ الدولةَ العراقيةَ خطواتٍ إلى الوراء، وتُعزّز الانقسامات الموجودة.
إنّ الاستثمار بين المُؤيّدين الأكثر أصوليةً وتطرّفاً داخل المجتمع الشيعي، أو بين المُرتبطين بهذه الأحزاب بعلاقةٍ زبائنيةٍ قائمةٍ على شبكات التوظيف وضخّ الأموال، لن يُعزّز سوى عزلتهم، وتعجيل الصدام المجتمعي، الذي يختزن كلَّ يومٍ عناصرَ رفضٍ جديدةٍ، وينتظر لحظةَ التفجير القادمة، التي قد تكون مع أول انخفاضٍ قاسٍ لأسعار النفط، وقدّ بانت بوادرها، فصرّحت بعض الجهات، ومنها اللجنة المالية في البرلمان العراقي، بأنّ المُرتَّبات للشهر المقبل قد تتأخّر بسبب تراجع أسعار النفط.
وليتذكَّر هؤلاء السياسيون جيّداً ما حدث في تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 2019. فما حصل لم يكن وليدَ اللحظة، وإنّما مُجرَّد لحظةٍ انفجاريةٍ لتراكماتٍ سابقةٍ، وهذا ما يجري اليوم أيضاً. ولن ينفع التخوين أو التخويف بالاتهامات الجزافية في منع الناس من إعلان رفضهم.
لا يوجد شيء اسمه "حكم الأغلبية"، ففي غالبية الدول هناك أقلّيةٌ فعّالةٌ تُدير الدولَ وحكوماتِها، ديمقراطيةً كانت أو غيرَ ديمقراطيةٍ، والاختلاف أنّه في الأنظمة الديمقراطية يكون الشعب قادراً على تغيير هذه النُخْبَة من الأقلّية الفعّالة بين فترة وأخرى.
تنجح الأقلية الحاكمة أحياناً في توسيع قاعدة شعبيتها من خلال سياسات تخدم جميع المواطنين، أو تذهب إلى العزلة، لأنّها تمثّل مصالحَ "أقلّيةٍ" من المجتمع. هناك أنظمةٌ ملكيةٌ في دول كثيرة ربّما أكثر شعبيةً وشرعيةً من عدّة أنظمة ديمقراطية بسبب هذه التفصيلة؛ أنّها تخدم جميع المواطنين، وليس فئةً مُحدَّدةً على حساب الآخرين.
إن كانت الأحزاب المتنفّذة في العراق اليوم تريد زيادةَ شعبيتها، وتريد تأجيل الانفجار الشعبي القادم، فعليها التخلّي عن هذه السياسات، التي تدفع إلى تكبيل الدولة العراقية بحبالِ الأصولية الدينية أكثرَ فأكثر.