تلك اللحظة الفريدة في مصر
هذه لحظة فريدة في عمر المجتمع، أن يتصالح الناس مع أحلامهم بعد قطيعةٍ وهروبٍ امتدّا لنحو حقبةٍ يمكن وصفها بأنها عصر إنسان الحد الأدنى، ذلك المواطن الذي بات يخشى الحلم بالأفضل، وفقد اليقين في القدرة على الانتقال والتغيير، حتى صار يخشى القادم ويتوجّس منه، حتى لو كان الأفضل.
هذه اللحظة الفريدة والجديدة كليًا تلمح سماتها في تنامي الكتلة الجماهيرية حول الخطاب السياسي للنائب البرلماني السابق الشاب أحمد طنطاوي، الذي لم يزل مجرّد مرشّح محتمل لانتخاباتٍ رئاسيةٍ لا يثق في جدّيتها وجدواها كثيرون.
وبالرغم من كل التحفّظات الموضوعية على البيئة السياسية المفترض أن تجري فيها عملية الانتخابات، وبعيدًا عن أن بنية النظام السياسي والتشريعي لا تساعد على إجراء انتخاباتٍ حقيقيةٍ من الأساس، إلا أن الرسائل الصادرة من النائب طنطاوي إلى الجمهور تلقى استجابة لافتة وغريبة بالنظر إلى المناخ العام.
ثمّة يقظة في الوعي والحلم لدى قطاعاتٍ لا يُستهان بها من الجماهير تفاجئ المراقبين بالتمرّد على مخرجات المشروع القومي الوحيد لمنظومة الاستبداد العربي طوال السنوات العشر الماضية، حيث نجحت الآلة القمعية العنيفة في تخفيض سقف الأحلام إلى مرحلة الخوف من الحلم ومعاداة الحالمين.
الآن يأتي سياسي شابٌّ حالمٌ بصدق، أو هكذا يفترض إلى أن يثبت العكس، ينثر حلمَه بين الناس فتنتشر العدوى بمعدّلات جيدة، بين طبقاتٍ كانت قد استكانت واستقرّ في يقينها أن لا طاقة لها بهذا الطغيان المقيم، الذي نجح في فرض معادلةٍ وجوديةٍ ترتدّ بالمواطن إلى عالم إنسان الحد الأدنى من الحقوق والآمال والتطلّعات، وكما قلت، قبل سنوات، صار المواطن الجيد، في نظر المنظومة الحالية، هو ذلك الكائن الذي يأكل ويشرب ويشاهد مسلسل الاختيار ويتفرّج على بناء الكباري، ولا يتكلّم في السياسة أو في الاقتصاد، أو حتى في الدراما الرسمية، وإلا فسوف يعاقب بالحبس والحرمان.
ذلك هو مفهوم حقوق الإنسان في مصر، كما كرّسته السلطة وفرضته على الكلّ، وهو مفهوم يناسب حيوانات المزرعة أكثر مما يتماشى مع طبيعة الإنسان، وتعريف الوجود البشري، سواء في النصوص الدينية المنزلة من السماء، أو في النظريات الفلسفية التي تكوّنت على الأرض.
يتآكل ذلك كله وينهار شيئًا فشيئًا، إذ واصلت ما يمكن تسميتها عدوى أحلام أحمد طنطاوي في الانتشار والتصاعد، حتى لو كان النظام مستفيدًا من حضور أو استحضار وجه سياسي جديد في اللعبة الانتخابية، يمنحها قشرة من الجدّية ويجعلها شكليًا أفضل من سابقاتها، وأيضًا حتى لو كان المتفاعلون مع هذه اللحظة الاستثنائية الفريدة على قناعةٍ بأنها لن تنجز التغيير في السلطة، غير أنها في أسوأ الظروف توقظ إنسان الحدّ الأدنى من سُباته العاجز المنسحب من كل شيء.
على أنه مما يمكن أن يُفسد هذه اللحظة هي المبالغة في تقدير حجمها وقدرتها على اجتراح معجزةٍ مستحيلة، ذلك أن التغيير في بنية النظام عبر صندوق الانتخابات مسألةٌ غير واردة على الإطلاق في المجتمعات العربية، حتى البلد الوحيد الذي كنّا نرى فيه انتخابات رئاسية حقيقية، لبنان، أصيب بالعطب السياسي منذ سنواتٍ لا يستطيع أن يسمّي رئيسًا جديدًا.
ويمكن الزعم إن السلطة هي الأخرى معنيّة بتضخيم الصورة والنفخ في مشروع أحمد طنطاوي، إذ بالتدقيق في الرسائل الصادرة من أحد إعلاميي هذه السلطة الأوفياء، عمرو أديب، من العاصمة البريطانية، تجدها لا تختلف ولا تحيد عما يريده النظام الحاكم، بمعنى الإيحاء للرأي العام بأن تهديدًا انتخابيًا محتملًا على النظام اسمُه أحمد طنطاوي. هكذا تبدو الرسالة الموجّهة من الغلاف الخارجي، لكن الغوص في التفاصيل، وخصوصًا التخويف والتوزيع مما أسماه المذيع "شبح الطربأة" أو بالفصحى هدم البلد على رؤوس أصحابها، ليس إلا دعاية مفتخرة للعملية الانتخابية ذاتها، ودعوة إلى كل المتردّدين والمقاطعين من أطياف المعارضة إلى الانخراط في اللعبة.
أما قراءة رسائل المذيع، الذي يكرر فيها بإلحاح مضحك أنه يقول كلامًا مختلفًا حدّ التهور، وسيعود من لندن وليس هاربًا ليقول كلامه الخطير، على أنها قفز من المركب وانتقال إلى المعارضة أو رسالة بعلم الوصول من قوى إقليمية للسيسي، فهذا مما ينطبق عليه الزعم بانخفاض الرغبة والقدرة على قراءة الواقع، كما هو، إلى ما دون الحد الأدنى، في عصر إنسان الحد الأدنى من الأحلام والمطالب.