تقليم الأظافر أم قطع الأصابع؟

08 ديسمبر 2024

(فريد بلكاهية)

+ الخط -

ما من شيءٍ ثابت وجامد، لا في الحياة، ولا في الفكر، ولا في السياسة. العالم في حال سيرورة دائمة، تتلاشى أمور وتختفي وتظهر أمور جديدة، فارضة وقائع غير تلك التي كانت، وقد يكون التغيير بطيئاً ويستغرق وقتاً طويلاً، وقد يحدُث العكس، حين تفاجئنا الحياة بما يشبه الانقلابات في دنيا السياسة، لم يحسِب لها أحدٌ حساباً، أو على الأقل لم يجرِ التوقّع بأنها ستحدُث بهذه السرعة وبالصورة التي جرت بها، وطبيعي أن كل تحوّل يحدُث يتطلب مراجعة شاملة لما سبقه، فلا يمكن الاستمرار بمقاربة الأمور بالطريقة السابقة ذاتها، وكأنّ شيئاً لم يحدث.

أمرٌ طيب أن يدرك المثقفون والسياسيون العرب، على تلاوينهم المختلفة، أنّ وضعاً جديداً قد نشأ في العالم، وكذلك في عالمنا العربي والإسلامي عامةً، وفي كل بلد من بلداننا على حدة، وأنّ الكثير من المفاهيم ومنظومات الأفكار السابقة موضع مساءلة ومراجعة، أو أنّها يجب أن تكون كذلك على كلّ حال، وأمرٌ طيب أن يقوموا هم أنفسهم بمثل هذه المراجعة وإعادة النظر، ويقدّموا نقداً ذاتياً لخطاباتهم السابقة التي غلبت عليها الشعارات و"الينبغيّات"، وأن يدعوا إلى دراسةٍ ملموسة، عيانية، متأنية، للواقع في ظلّ ما عصف بالعالم من أحداث جسام في العقود الأخيرة، وما يشهده في الوقت الراهن أيضاً من تحوّلات على الصعد كافة، لكي لا تُجلّس أفكار جاهزة على واقع عصيّ على التوصيفات المسبقة، يحتاج إلى فهمٍ من داخله بأدوات تفرزها تعقيداته هو، من دون أن ينفي ذلك الإفادة من مدارس الفكر والبحث العالمية، ومن تجارب الأمم الأخرى، من دون إغفال حقيقة أنّ ما يصحّ على مجتمع ما ويلائم معطياته، يمكن أن يصحّ على مجتمعات أخرى، على الأقل ليس في كل التفاصيل.

أمرٌ طيبٌ أيضاً أن تكون لدى المثقف، أو السياسي، العربي، يقظة لتلمّس الجديد والمتغيّر، وميلٌ لنبذ ما بات بالياً من المفاهيم والآراء والمواقف التي لم تزكّها الحياة والخبرة العملية، خصوصاً أنّ الفضاء العربي، هو الآخر، في أشدّ لحظات تأزّمه، في ظرفٍ لم تنجز فيه الأجيال السابقة ولا الجيل الحالي الأهداف التي رفعتها، لنجد أنفسنا في ظرفٍ ليس من الواضح فيه بعد ما المخرج وما الأفق، خصوصاً مع غياب المشروع العربي الجامع، وسط استقطابٍ حادٍّ بين مشاريع إقليمية أخرى، أعين أصحابها جميعاً مصوّبة على عالمنا العربي، ليصبح تحت عباءة هذا المشروع أو ذاك، بصرف النظر عن المسمّيات التي تطلق على ذلك. ونظرة خاطفة على الوضع القائم في بلدان عربية مفصلية يُرينا بوضوح كيف يتقاسم أصحاب المشاريع الإقليمية المجاورة مساحات واسعة من أراضي هذه البلدان.

وفي إطار هذه التعقيدات، برزت، قبل عقود قليلة، مدرسة يطلق عليها أصحابها من المثقفين العرب اسم الواقعية الجديدة، ولها مريدون وأنصار في مختلف البلدان، بما فيها بلدان الخليج والجزيرة العربية، ووجدت لها رواجاً في الوسط الثقافي والأكاديمي المنخرط في الشأن العام، جرّاء ما عصفت بنا من تطورّات تجلت في شكل حروب وغزوات واحتلالات أجنبية وتفشي الفساد واستشراء لأنماط الحياة الاستهلاكية المسترخية.

والواقعية، باعتبارها مفهوماً مجرّداً أو محايداً، أمر مطلوب دائماً، بديلاً للشعارية الرومانسية، خصوصاً في مواجهة واقع شديد التعقيد، كالوضع السائد في عالمنا العربي الذي تتكالب عليه المحن من كل صوب، فلا يمكن الاستخفاف بهذه التعقيدات والهروب منها بالبلاغة والأمنيات، وإنما مواجهتها بالاستيعاب العميق والتحليل الرصين بغية الإلمام بأوجهها المختلفة، ورسم طرائق التعاطي الخلاق معها. هذا كله صحيح، ولكن "الواقعيين" العرب لا يقفون عند هذا القدر الضروري من المراجعة ومن الواقعية، فهم إذ يراجعون الأساليب والشعارات التي يحسبونها لم تعد ملائمة، ولهم في ذلك كامل الحق والمشروعية الفكرية والسياسية، يتراجعون عن المبدأ أو الهدف نفسه الذي طالما بشّروا به، ويعلنون تخليهم عنه كلية، شأنهم في ذلك شأن من بحجّة تقليم الأظافر يقطع الأصابع، حسب تعبير رسول حمزاتوف، وهم في هذا لا يجدون غضاضة في الاستدارة الكاملة من جهة إلى جهة، وهم بالحماسة نفسها التي كان يبشّرون بها بأفكارهم السابقة، يبشّرون بدعواتهم الجديدة، النقيضة لما كانوا ينادون به سابقاً، وكأنّ شيئاً لم يكن.

لقد تصالح الواقعيون الجدد مع الواقع، فهنيئاً لهم!.. لكن هل تصالح الواقع معهم؟ هنا مربط الفرس.

كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها
حسن مدن
كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها.