تفكيك الذات العربيّة
بعد تفكيك الاتّحاد السوفييتيّ ومنظومة الدول الاشتراكيّة، على ذلك النحو العجيب، بدأت، مباشرةً، حقبة الحرب على الإرهاب، التي كان واضحًا، منذ البداية، أنّها تستهدف المنظومة الإسلاميّة دون غيرها. لقد كان الإرهاب اشتراكيًّا ثمّ أصبح، على الفور، إسلاميًّا. وهذا مفتاح أساسيّ لفهم أمورٍ كثيرة حدثت، وما زالت تحدث، في عالمنا العربيّ والإسلاميّ. لقد اعتبر صعود إيران وتركيّا الإسلاميّتين، وسقوط نظام بن علي ونظام مبارك المواليين بشدّة لأميركا، علاماتٍ على (ضعف) أميركا الناجم عن الأزمات البنيويّة العميقة في النظام الرأسماليّ. لكنّ ذلك لم يقدّم تفسيرًا شافيًا لما يجري، لأنّ أميركا ما كانت لتعجز عن حماية عملائها وأتباعها ومصالحها، لو أرادت، بدليل أنّها ما ضعفت قطّ في الدفاع عن (إسرائيل)، ولا وهنت، وهي تفكّك أفغانستان ويوغوسلافيا والعراق، بكلّ قسوة ووحشيّة. الحقيقة هي أنّ أميركا (تخلّت) عن عملائها، ولم (تعجز) عن حمايتهم، وقد يكون ذلك عن ضعفٍ أو تراجع، نعم. لكنّه، في الأساس، مرتبط بعمليّات التفكيك الضخمة، الّتي تنفّذها أميركا ضدّ المنظومة الإسلاميّة، والتي ترمي إلى تعقيمها واستئصال كلّ جذور المقاومة لديها، من أجل تأهيلها للزمن الإسرائيليّ. لذا، فإنّ سقوط النظامين التونسيّ والمصريّ لم يخلّص البلدين من دائرة النفوذ الأميركيّ، بل خلّص أميركا من نظامين أكلهما الصدأ، حتّى تحوّل وجودهما، من أداة لخدمة المصالح الأميركيّة في المنطقة، إلى حاضنة خصبة لكلّ أشكال المعارضة الوطنيّة الّتي تكره أميركا، وتدعو إلى إسقاط عملائها المحلّيّين، وتعبّئ الجماهير ضدّ وجود إسرائيل ووظائفها الإمبرياليّة المريبة.
وإذا كانت اتّفاقيّة (سايكس ـ بيكو) قد نجحت في تفكيك المكان العربيّ، فإنّها لم تكن إلاّ مقدّمة لتفكيك الوجود العربيّ برمّته، الذي يجري الآن على قدم وساق. وإذن، فإنّ الدولة القُطريّة العربيّة كانت، في الحقيقة، مرحلة أولى من مراحل التفكيك، لا من مراحل الوحدة كما توهّم العرب في البداية، وجاءت ثورات الربيع العربيّ بوصفها (نتيجة)، لا (سببًا) للتفكيك، لأنّها كانت موجّهة، في الأساس، ضدّ (النظام) القطريّ الّذي ظلّ طوال الوقت يحرس (سايكس ـ بيكو)، ويعمّق التجزئة في الوعي، ويفرض على الناس هويّاتٍ جغرافيّة بديلة للهويّة الثقافيّة الجامعة.
"مثير للسخرية الاعتقاد بأنّ عصابةً، مثل (داعش)، تستطيع أن تستولي، فعلاً، بألف وخمسمائة مقاتل، على كلّ تلك المناطق في العراق، من دون أن يتمكّن الجيش العراقيّ الحديث والقويّ من إيقافها؛ فيما النظام السوريّ، بجيشه المنهك، يستولي على مدن الثورة، الواحدة تلو الأخرى، وهي واقفة تتفرّج" |
ولا شكّ في أنّ انتقال ثورات الربيع العربيّ من قطر إلى آخر كان دليلا قاطعًا على أنّ ثمّة ما هو عابر للقطريّة فيها، وذلك يعني أنّها لم تكن مجرّد ثورات محليّة، تستدعي الخوف على (الدولة)، بل كانت بروفات أوّليّة لثورة شاملة، استدعاها الخوف على الوجود التاريخيّ والهويّة. لكنّ الثورة، التي ولدت بسلاسة في كلّ من تونس ومصر، تخبّطت في ليبيا واليمن، ثمّ ما لبثت أن ارتطمت بالجدار في سوريّة. وقد عمل ذلك على بدء عمليّات التفكيك في المجتمع السوريّ والدولة السوريّة، كما عمل على تعطيل المقاومة وحرف بندقيّة حزب الله بعيدًا عن العدوّ، وتعميق الشرخ الطائفيّ بين السنّة والشيعة، إذ من المؤكّد أنّ ما يحدث في العراق، الآن، ليس سوى امتداد طبيعيّ لمشهد الرعب القياميّ في سوريّة.
إنّه لمن المثير للسخرية الاعتقاد بأنّ عصابةً، مثل (داعش)، تستطيع أن تستولي، فعلاً، بألف وخمسمائة مقاتل، على كلّ تلك المناطق في العراق، من دون أن يتمكّن الجيش العراقيّ الحديث والقويّ من إيقافها؛ فيما النظام السوريّ، بجيشه المنهك، يستولي على مدن الثورة الواحدة تلو الأخرى، وهي واقفة تتفرّج. يحقّ لنا أن نتساءل عن مصادر تسليح داعش، التي ظهرت فجأة، وتحوّلت بقدرة قادرٍ إلى قوّة كبرى، وعن حقيقة دورها المريب في كلّ من سوريّة والعراق، وعن السبب، الذي يمنع النظام السوريّ من قصفها بالبراميل، مثلما فعل في حلب، ويمنع النظام العراقيّ من تحريك الجيش لمواجهتها، بدلاً من إعلان التعبئة الطائفيّة، التي لا تخدم إلاّ عمليّات التفكيك الجارية في العراق والمنطقة.
تلك، إذن، واحدة من صفات النظام القطريّ العربيّ لم تكن في الحسبان. إنّها كفاءته العالية في خدمة مشروع التفكيك: تفكيك الدولة والهويّة والمجتمع والأمّة والثقافة والمعارضة، وتفكيك كلّ شيء في النهاية. ذلك ما فعله القذّافي، مثلاً، بالدولة الليبيّة، قبل أن يطاح به. أمّا النظام الأسديّ، فقد نجح في أن يحمي نفسه من السقوط حتّى الآن. لكنّه، في المقابل، لم يتورّع عن تحطيم كلّ شيء حوله. ومع ذلك، فإنّ (الخراب) لا أهميّة له عنده، إلاّ بوصفه دليلاً على جريمةٍ ارتكبتها المعارضة، من دون أن يكون له أيّ يد فيها. إنّ مفهوم (الممانعة) مجرّد حالة فراغيّة، لا أبعاد لها ولا حيثيّات، لأنّ النظام، الذي يتشدّق دائمًا بأنّه ممانع، لا يخبرنا كيف يمكنه أن يمانع في بلدٍ مثقلٍ بكلّ هذا الخراب، وغير مؤهّل إلاّ للانهيار فقط؟ إن عبارة (الأسد، أو نحرق البلد)، التي كان يردّدها أذناب النظام دائمًا، هي عبارة مفتاحيّة، تدلّ على أنّ النظام نفسه هو الخطر الذي يتهدّد البلد، إذا فكّر في التغيير. وهي اعتراف مسبق بالمسؤوليّة عمّا يحدث في سوريّة من خراب، أمّا أدوات الخراب الأخرى، التي يستخدمها النظام حجّة للتنصّل ممّا تقترفه يداه، ويلقي عليها مسؤوليّة وجودها ومسؤوليّة أفعالها وأفعاله، فهي ليست سوى دليل آخر على أنّ المجرم الأوّل هو النظام ذاته، وعلى أنّه مضطلع بتفكيك سوريّة، بوعيٍ أو بغير وعي منه، خدمة للعدوّ الذي يزعم أنّه رائد في ممانعته.