تفقير السياسة والسطو على المُناسبات الوطنية في تونس
لمْ يفُز الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في المحطات الثلاث الأولى التي وضعها في أجندته لهذا العام، لكنّ أحداً لم يهزمه. دعا إلى "استشارة إلكترونية" أعرض عنها التونسيون، لكنّه جعل منها تفويضاً شعبياً لدستوره. شكّل لجنة لـ"جمهورية جديدة" قاطعتها القوى السياسية والاجتماعية الكُبرى في البلاد، ليوهمَ أنّه شَرّك واستشار. عرض دُستوره على استفتاء شاركت فيه أقليّة فأجازهُ. إنّه يهرُبُ وحيداً إلى الأمام، حيث المرحلة الأخيرة مع انتخابات تشريعيّة جديدة لا نعلمُ من سيشاركُ فيها، وأيّ قانون انتخابيّ سيحكُمها وأيّ هيئة ستُشرف عليها.
لا يهمّ الرئيس من يُشارك. المهمّ أن ثمّة من شاركَ. لا التعدّدية همّهُ ولا المُشاركة المواطنيّة الواسعة تعنيه. مع هذا، ما زال ينطقُ باسم الشعب، ويَكيلُ التهمَ لمن خالفهُ ومن عارضهُ، مُعتبراً أنّ مشروعهُ الحقَّ مُستهدفٌ. يُعدّدُ أعداءً لا يُسمّيهم، فلا نعرفهم. يهدّدهم ويتوعدهم ويتحدّث عن "اللحظات الحاسمة".
ويسطو قيس سعيّد على المُناسبات الوطنية الكُبرى، فقد أُعلنَ عن نتائج الاستشارة الإلكترونية في العشرين من مارس/ آذار، بمناسبة عيد الاستقلال، ليجعلَ المُناسبة الوطنيّة تحت ظلّ حدثِهِ الباهت. استشارةٌ جاءت في ديباجة دُستوره وكأنّها تفويض من الشعب. جاء فيها: "نحن الشعب التونسي... وقد عبّرنا عن إرادتنا واختياراتنا الكبرى من خلال الاستشارة الوطنيّة". إنّه سطوٌ واضح على إرادة الشعب، فلا حوار عمُوميّاً ولا قوى حيّة في البلاد تقيّمُ ما فات، وتؤسّس لما سيأتي، فتكون مُخرجات الحوارات خريطة طريق يتحمّل فيها الكلّ المسؤوليّة، وتنبني على إرادة وطنية مُشتركةٍ. وحده يسحبُ رأي من اتبعهُ على عمُوم الشعب، ومن اتبعهُ لا رأيَ لهم غير ما يُصدر الرئيس من أصواتٍ يُردّدونها. وهو يربط هذا التفويض الوهميّ بمناسبةٍ جامعةٍ، سطواً على المُشترك. كأنّ الاستقلال الأوّل لا يُرضيه أو لا يعنيهِ، ويُريدُ أن يُسبل عليه رداءهُ ذا اللون الواحد. وقد جعلَ بن علي عيد الاستقلال بنفسجياً بلون حزبه أكثر من عقدين، وكان عيداً للزعيم الأوّل بورقيبة و"حزب الدستور". استرجعه عموم التونسيين بعد الثورة، والخوف أن تتفرّد به جهة جديدة.
سيكون الموعد المقبل في 17 ديسمبر ملحمة أخرى خطها الشعب التونسي، ويريد الرئيس أن يجعلها مُناسبة لهُ أيضاً
شكّل لجنته لـ"الجمهورية الجديدة"، وكان غالبية أعضائها أشخاصا لا يعرفهم التونسيون، ولا يمثلون غير أنفسهم، ومنهم ممثلو بعض أحزاب الولاء القليل عددهم والضعيفة حُججهم. ثم انقلب عليها بعد أن قدّمت مشروعها للدستور الجديد، فكتب نصّاً من خواطره، عرضهُ على الاستفتاء في الخامس والعشرين من يوليو/تموز، تاريخ عيد الجمهوريّة وكأنّه يُلغي من الجمهوريّة ما قد مضى، مؤسّسا لجمهوريته هذه التي نحاول تبيان معالمها. إنّه يسطو على موعدٍ وطنيّ آخر لـ "يُدسترهُ" ضمن مشروعه. بل إنّه رهنَ هذا التاريخ لجمهوريته الجديدة، قبل عامٍ، حين أوّل الفصل الثمانين من الدستور، وذهب إلى المُرور بقوّة مُستغلا فشل الحكومات المتعاقبة وصراعات البرلمان التي أضاعت فرصاً على درب البناء الديمقراطي.
سيكون الموعد المقبل في 17 ديسمبر/ كانون الأوّل، وهو ملحمة أخرى خطها الشعب التونسي، ويريد الرئيس أن يجعلها مُناسبة لهُ أيضاً. وحتى هذه، بدأ بالسطو عليها ضمن إجراءاته الاستثنائية وقراراته الفردية، إذ أصبح عيد الثورة في هذا التاريخ الرمزي عوض 14 يناير/ كانون الثاني. والحال أنّه لم تُنكر أيّ جهة رمزية ذكرى اندلاع الثورة، فإنّ استفراد فردٍ بأمرٍ كهذا يمكن اعتباره مُنتهى السلطويّة. وقد جعلَ بن علي لنفسهِ عيدَ انقلابه في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني لتقام فيه الاحتفالات الكُبرى لحزبه والموالين لهُ، وإن هو صبغ عيدي الاستقلال والجمهورية بلون حزبه، فقد تركَ لهما رمزيتهما الأولى.
لم تنجح مُبادرات تشكيل قوى سياسيّة جديدة، رغمَ أنّ الحراك الاجتماعي يزخر بالطاقات المُميّزة والأكثر قُربا من الناس ومشاغلهم
لا أحد يعلمُ، على وجه الدقّة، كيف ستكون الانتخابات المقبلة. ولم يُصدر الحاكم بأمره بعدُ قانونا انتخابيّا. وقد عبّرت أغلب الأحزاب عن رفضها كلّ المسار، وانتقدته القوى المدنية والاجتماعيّة الكُبرى. قدْ يُفصّل سعيّد الانتخابات بالشكل الذي يُقصي مُنافسيه من المُشاركة، وخصوصا حزب حركة النهضة الذي لا يزالُ يُناورُ بين رفض المسار وانتظار صدور القانون الانتخابي ليُقرّر، وقد يذهب إلى الانتخابات بقوائم مُستقلة إذا ما انتهى إلى أنّ عدم المشاركة تُنهى وجوده السياسي، فمُشاركةُ أيّ حزب ستكون بهدف "ضمان البقاء"، لا قناعةً في المسار، ولا حرصاً على تقديم البدائل التي يمكن أن تُخرجَ البلادَ من أزمتها.
بدأت مرحلة التفقير السياسي قبل قيس سعيّد، والفرق أنّه يتقصّدُ هذا الأمر ويُريدهُ فعلاً، فخلال سنوات لم تأت أغلب الأحزاب السياسيّة ببرامج ومشاريع حقيقيّة، وكان حضورها في الأغلب في المناسبات الانتخابيّة، وكان تنافُسا على جَمعِ الأصوات لا على إقناع الناخبين. وجعلت الأحزابُ تونسيات وتونسيين كُثرا "يكرهون" التنظّم الحزبي، ويعتبرون أنّ التحزّب بحث عن مصالح ومغانمَ، وأنّ تأزّم الأوضاع مَرجَعُهُ الصراع بين الأحزاب وكُتلها البرلمانيّة، حيث وصلت إلى حدّ مُعيب، قبل أن يضع سعيّد يدَهُ على كلّ السلطات. ولم تنجح مُبادرات تشكيل قوى سياسيّة جديدة، رغمَ أنّ الحراك الاجتماعي يزخر بالطاقات المُميّزة والأكثر قُربا من الناس ومشاغلهم، فبقيت الساحة السياسيّة فقيرة المُبادرات السياسيّة، يتزعمها حزب النهضة وينافسُهُ انتخابيا "الدستوري الحُر" وريث "التجمع" (حزب بن علي)، لكنّه بلا مرجعيّة وليس أقلّ شعبويّة من تنسيقيات قيس سعيّد على أنّه أكثر تنظيما ومُعادٍ للثورة مُمجّد زمنَ "المخلوع". تَلومُ القوى المُواطنيّة الطبقة السياسيّة، وتُلامُ أنّها لم تصنعَ بديلاً قادرا على إحداث التوازن والارتقاء بالفعل السياسي.
لا ديمقراطيّة من دون حوارٍ عُموميّ، ولن يكون الحوار من دون مشاركة واسعة لكلّ القوى السياسية والمدنية ومن دون صحافة مُستقلة وتعددية
لا سياسةَ من دون أحزاب. ولا سياسة بالأحزاب وحدها، فالقوى المدنيّة والاجتماعيّة جزء هامّ من الفعل السياسي. لكنّ سعيّد يُقصيها، ويسعى إلى شطبها ليعوضها بـ "الشعب" أو "الشباب"، أو أيّ مُفردةٍ عامّة تنسحبُ على كثيرٍ ولا يمكن تحديد المسؤول فيها وعنها. لا يُريد الرئيس أن يُشارك الشعب عبر تمثيلياته التنظيمية، مُلغيا الوسائط. وهو كاره للصحافة، لا يُجرى حوارات أو يتوجه إلى وسائل الإعلام، ومؤسسة الرئاسة تتوجّه إلى الشعب عبر "فيسبوك". والأكيد أن تجاهل الصحافة ليس تجاهُلاً للصحافيين ووسائل الإعلام فقط، بل هو رفض لحقّ المواطنات والمواطنين في المعلومة. إنّ الصحافة سلطة أيضاً، يحاول أن يهيمن عليها بإنكارها، ويهرب من مواجهتها لأنها تُسائلُهُ. وقد قدمته الصحافة للناس، ثمّ أصبحَ ظاهرة. ثمّ صعِدَ عُلوّاً وغلوّاً.
لا ديمقراطيّة من دون حوارٍ عُموميّ، ولن يكون الحوار من دون مشاركة واسعة لكلّ القوى السياسية والمدنية ومن دون صحافة مُستقلة وتعددية. وإذا كانت الانتخابات إحدى أكبر تمظهرات الديمقراطيّة، فكيف ستكون الانتخابات البرلمانية المقبلة؟ وكيف سيكون شكلُ السلطة التشريعية المقبلة؟ ومن همُ برلمانيو تونس في "الجمهورية الجديدة"؟
بعد فشلهِ في المحطات الثلاث الأولى لأجندته، لهذا العام، يبدو أنّ سعيّد سيكون إقصائياً ما استطاع ليفشل، من دون أن يهزمهُ أحد، ويضيع على البلاد عاماً آخرَ مِقدارهُ أعوام... إنّه يًسطّحُ كلّ فعل سياسي، ويجعلُهُ باهتاً بلا روح. إنّه يُفقّرُ السياسة.