تفاصيل مغربية
يشهد المغرب، مطلع الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول)، تنظيم ''الإحصاء العام للسكّان والسُكْنى''، بغاية حيازة قاعدةِ بياناتٍ مُفصّلة ومُحَيَّنة، تساعد في تحديد احتياجات المغاربة، لا سيّما في القطاعات الاجتماعية الحيوية، بالتوازي مع ملاءمة السياسات العمومية ذات الصلة لهذه الاحتياجات.
في هذا السياق، أثار رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، عزيز غالي، غضب فئات عريضة من الأساتذة، حين انتقد، في تدوينةٍ له، مُشاركتهم في الإحصاء في مُقابل تعويض مالي، واصفاً إيّاهم بـ''العَطَّاشة'' (بمعنى الذين يُزاحمون الطلبة والعاطلين في فرص عمل مُؤقّتة)، في وقت رأى كثيرون أنّه لم يجانب الصواب، على اعتبار أنّ فصول المدارس ينبغي أن تكون المكانَ الطبيعي للأساتذة خلال الدخول المدرسي المُقبل، من دون مزايدةٍ أو محاولةٍ لتنْسيب البديهيات المُتعارَف عليها في الأنظمة التربوية المُحترمة، أبرزها التزام حماية حقّ التلاميذ في التعليم والتحصيل. وهو التزامٌ يُفترَض أن يكون مُشتركاً بين الحكومات والأسر والأساتذة، والمؤسّسات المجتمعية المعنية كلّها.
كان الموسم الدراسي المنصرم في المغرب كارثياً بالمقاييس كلّها، بعد أن شلّت الإضرابات المتواصلة التي خاضها الأساتذة، احتجاجاً على النظام الأساسي الجديد لموظّفي وزارة التربية الوطنية، منظومةَ التربيةِ والتكوين شهوراً، وهو ما فاقم أكثر أزمتها البنيويةَ المعلومةَ. والمفروض، أمام ذلك الزمن المدرسي المهدور، أن يكون الفاعلون المعنيون بالدخول المدرسي هذا الموسم، وفي مُقدّمتهم الأساتذة، حريصين أكثرَ من غيرهم، ليس على أن يكون التحاق التلاميذ بفصول الدراسة في موعده فقط، بل حريصين أيضاً على تدارك بعض ما فات تحصيله خلال الموسم الماضي. وإذا كانت الحكومةُ والمندوبيةُ الساميةُ للتخطيط لا تجدان الكوادرَ اللازمةَ للقيام بعملية الإحصاء، فتلك مشكلتهما أولاً وأخيراً. وبوسعهما أن تستعينا بحَمَلة الشواهد من خرّيجي الجامعات والمعاهد العُليا ممّن لا يزالون عاطلين عن العمل.
المفروض أن يكون الأساتذة جزءاً من حَلِّ بعض ما تراكم من مشاكلَ في منظومة التربية والتكوين، لا جزءاً من حلّ مشكلات لوجستية في الإحصاء العام، الذي ستبلغ تكلفته ما يناهز 150 مليون دولار، ستتحكّم وزارة الداخلية، من خلال الولاة والعمّال (المحافظين)، والمندوبيةُ السامية للتخطيط، في قنوات صرفها من دون آليات رقابة واضحة.
الحلقة الأضعف في هذا ''البوليميك'' هي التلاميذ، الذين تعرّضوا، في الموسم الدراسي الماضي، لمجزرة تربوية غير مسبوقة، بسبب ''معركة كسر العظام'' بين الحكومة والأساتذة على خلفية النظام الأساسي سالف الذكر. قد يقول قائل إنّ حكوماتٍ في العالم تستعين بالأساتذة في إنجاز إحصاء السكّان، غير أنّ ذلك، وهذا مربط الفرس، يكون بالتوازي مع احترام الزمن المدرسي وحماية حقّ التلاميذ في التعليم، ووفق خططٍ محكمةٍ لا تُؤثّر في السير العام للدراسة.
اللافت، والدالُّ أيضاً، في ما قاله عزيز غالي، أنّه يستدعي، بشكل ضمني، مسؤولية المجتمع في فشل التنمية في المغرب؛ فإذا كان في السابق قد أثار قضايا فساد، من قبيل التلاعب بصفقات الأدوية إبّان الجائحة، والدم الملوث بالإيدز، ووفاة مرضى بسبب الحرارة المفرطة في مستشفى بني ملّال، الذي لم تكن فيه مُكيّفاتُ هواء، فاليوم يشير، في سياق آخر، إلى مَواطِن العطب داخل مجتمعٍ أضاع البوصلة، في ظلّ أزمةٍ عميقةٍ تضرب مؤسّساته الحيوية، وفي مُقدّمتها المدرسة العمومية. ولعلّ السؤال هنا: لِمَ لمْ تُثِرْ قضايا الفساد التي أثارها غالي كلَّ هذا ''البوليميك'' الذي أثارته مشاركةُ أساتذةٍ في الإحصاء العام؟ هل يدلّ ذلك على ''ازدواجية معايير''، بات المجتمع المغربي يبني من خلالها مواقفه وتمثّلاته إزاء أكثر من شأنٍ.
بالطبع، لا يمنع ما تقدّم إثارة مسؤولية الحكومة في هذه النازلة، على اعتبار أنّها مطالبةٌ بتبرير ترخيصها لأساتذةٍ بالتغيُّب الكامل عن عملهم داخل فصول الدراسة قرابة شهر، من أجل القيام بمهام لا تدخل ضمن مهامّهم من الناحية القانونية، مع حصولهم على أجورهم كاملةً، وهي التي لم تتوانَ، خلال السنة الماضية، عن اللجوء إلى مسطرة الاقتطاع من أجور الأساتذة الذين أضربوا عن العمل احتجاجاً على مقتضيات النظام الأساسي المذكور.