تعليق عربي على النضال في "الشيخ جرّاح"
يخوض الشعب الفلسطيني الأعزل في مدينة القدس مواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي وعصابات المستوطنين التي تحاول تهجير عائلات فلسطينية من بيوتها في حي الشيخ جرّاح وتمليكها للمستوطنين. ولهذه المواجهات أهمية كبيرة لاعتبارات عديدة، منها أنها حدثت بعد عقد من اندلاع الثورات العربية في 2011، عقد الآمال والأهوال، وأن العرب والفلسطينيين يشهدون منذ 2013 انهيارًا وضعفًا وتيهًا لم يخبروا مثله منذ ستين عامًا. كما ولم تكن إسرائيل، منذ إنشائها، في نفوذ مثل ذاك الذي تتمرّغ في نعيمه في السنوات الثماني الفائتة. وهذا قد يكون سبب ما يراه بعضهم "غباءً" إسرائيليًا يدفع الأجيال العربية الشابة دفعًا نحو التسيُّس والانخراط في الصراع العربي الإسرائيلي، وهي أجيالٌ توقع كثيرون منها التيه والعدمية وضعف المناعة أمام خطابي الاحتلال والاستبداد عمومًا، بسبب تشكل وعيها السياسي في عز الثورة المضادّة، وتكلس (وانكماش) المؤسسات التي كانت تدخل الشباب في دوائر النضال السياسي وتثقفهم، مثل الأحزاب والنقابات، وصعود قوى اليمين في العالم وتجاوز النظام العربي الخطوطَ الحمر في التعامل مع إسرائيل، وتوجهه نحو التصهين المتحمس، لا التطبيع فحسب. الغباء مرافقٌ مخلّصٌ للغطرسة، ولكن يبدو أن إسرائيل ترى أن سياقًا عربيًا مثاليًا بالنسبة لها مثل السياق الحاضر لن يتكرّر، وهذه هي الفرصة التاريخية لتنفيذ (وتثبيت) رؤاها بخصوص الأراضي المحتلة عام1967. رأينا هذا في الضفة الغربية والجولان وما سمي "صفقة القرن" ونراه اليوم في القدس. من هنا، يكتسب الحدث الجاري في القدس أهمية عربيًا، وسيتخذ المقال من هذا السياق العربي فرصةً لمناقشة فكرتين، بخصوص البعد العربي للقضية الفلسطينية في الوقت الراهن.
علينا تجاوز المنطق الذي غرسه النظام العربي الذي يدفعنا إلى رؤية الصراع مع إسرائيل، مختزلًا في القضية الفلسطينية
أولًا، يعيدنا هذا التفاعل العربي مع نضال أهل القدس إلى فكرة كانت مركزيةً في الستينيات، وكادت تدفنها السنوات النحسات التي نمرّ بها، أو بالأحرى تمرّ علينا، منذ مطلع التسعينيات وحتى أيام قليلة ماضية، وهي أن القضية الفلسطينية عربيّة، وليست فلسطينية فحسب، بل إنها ليست فلسطينية في المقام الأول إلا بمعنى أن فلسطين هي الخط الأول في معركةٍ تتجاوزها. منذ اتفاق أوسلو أصبحت جملة "لن نزايد على الفلسطينيين"، التي يطلقها كتبة الأنظمة العربيّة ومثقفوها تبريرًا للتطبيع وإقامة علاقات مع إسرائيل، عقيدةً شائعة، تحكم تفكيرنا العام بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي الذي أصبحت نهايته مرهونةً بالحل الذي تقبله السلطة الفلسطينيّة فحسب. مثلًا أصبح حل الدولتين هو "الحل" للصراع العربي الإسرائيلي، ولكنه في الحقيقة ليس إلا حلًا يمثل الممكن من وجهة نظر بعض الفلسطينيين لقضية فلسطين، وحلاً من وجهة النظام العربي للصداع المزعج الذي يعانيه من هذا الموضوع، ولكنه على المدى البعيد ليس حلًا للعرب/ الدول العربية. المشكلة مع إسرائيل ليست فقط أنها قوة احتلال واستعمار أقامت دولة بالتطهير العرقي وبتهجير شعب عربي، بل قبل ذلك أنها أولا قوة احتلال عنصري ضد العرب جميعًا، وثانيا تقطع طريق الاتصال البري الوحيد بين الجناحين العربيين الآسيوي والأفريقي، وثالثا تشكل أخطر تهديد أمني لهم في قلب منطقتهم بامتلاكها ترسانة نووية وبرؤيتها الاستعمارية التي تضع العرب في إحدى خانتين: إما خانة العدو أو، في أزهى أحوال "السلام"، خانة الهامش الشاسع الخاوي من التحضّر، والذي يمثل مصدرًا للمواد الخام الذي سيغذّي المركز الإسرائيلي، وسوقًا وممرًا مستقبليًا واعدًا لبضائعه ومنتجاته. وبالتالي، ومن ناحية الأمن القومي، لا يمكن التخلص من التهديد الإسرائيلي التاريخي إلا بتفكيك صهيونيّة الدولة الإسرائيلية. وبهذا ستحل أيضًا القضية الفلسطينينة حلًا عادلًا، وهذا أحد أوجه الارتباط العضوي بين القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي. بدون هذا، وحتى لو قامت دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967 (حركة الاستيطان في الضفة الغربية وتهويد القدس جعلا هذا "الحل" مستحيلًا)، فإن هذا ربما يرضي قطاعًا من الفلسطينيين، وهو أقصى ما حلم به النظام العربي (ممانعوه ومعتدلوه) قبل عام 2011، لأنه نظام لا تتمايز فيه مصالح السلطة الحاكمة من مصالح الدولة، وبالتالي ليس واضحًا عنده مفهوم الأمن القومي، ولكنه استراتيجيا لا يعني شيئًا للدولة العربية؛ ستبقى إسرائيل تهديدًا أمنيًا تاريخيًا وعدوًا، وسيبقى الصراع العربي الإسرائيلي على حاله.
القدس ليست "البوصلة" .. الحرية والعدالة هي البوصلة
الأمر الآخر المهم في هذا السياق هامشية موضوع الأسماء والعناوين و"اللاصقات"؛ ليس مهمًا إذا كنتَ قوميًا أم لا، أو أي فهم لديك لمعنى "الأمة العربية"، أو حتى موقفك من وجودها أصلًا، هذا الصراع من الخطورة بمكان، بحيث أنه يتجاوز هذه الأمور. ولذلك علينا تجاوز المنطق الذي غرسه النظام العربي الذي يدفعنا إلى رؤية الصراع مع إسرائيل، مختزلًا في القضية الفلسطينية. إسرائيل تصر على التعامل سياسيًا، خصوصا في "مفاوضات السلام"، مع كل دولة عربية على حدة؛ أي أنها ترفض فهم الدولة العربية الصراع باعتباره صراعًا عربيًا، وبذلك تستطيع إسرائيل تعظيم قوتها في المفاوضات، وحرمان الدول العربية من مراكمة الضغط، ولكن إسرائيل نفسها ترى الصراع مع العرب؛ وعيها الثقافي وعقيدتها الأمنية وثقافتها السياسية؛ تجعلها ترى العرب كُلًا واحدًا، و"جوهرًا" واحدًا بالطبع، وتمارس العنصرية على الفلسطينيين بصفتهم عربًا، ولنستمع مثلًا (على الرغم من ثقل هذه المهمة) إلى بذاءات قطعان المستوطنين في حي الشيخ جرّاح؛ الهتافات والعبارات المقذعة توجّه إلى "العرب".
ثانيًا وأخيرًا، القدس ليست "البوصلة"؛ هذا أمر تعلمناه بعد كل ما رأيناه ونراه من إبادة جماعية وقهر وإذلال وتهجير في سوريّة على يد نظام الأسد، وفي اليمن على يد الحوثيين، وفي العراق ولبنان على يد المليشيات الطائفية، وبدعم وقيادة إيرانيَّيْن. الحرية والعدالة هي البوصلة. وإذا كانت كذلك، فإنها ستشير قطعًا إلى القدس، وإلى صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت باعتبارها معارك تحرّر مختلفة، ولكنها بأفق واحد ليس فيها تناقض، ولا يصح أصلًا تقديمها بوصفها متناقضات. إن توثين القضايا وتحويلها إلى معيار أخلاقي، عوضًا عن القيم التي تقبع خلفها، والتي أوجدتها وحوّلتها من أزمة ومشكلة إلى قضية، ينتجان أقبح المسوخ التي بإمكانها نسف دول وسحق تمدن شعوب بأكملها، وقد عايشنا هذا وكابدناه في أوطاننا العربية ولا نزال.