تعقيد الأزمة اليمنية
ظلّ الصراع السعودي - الإيراني يحكم مسارات الحرب في اليمن إلى حدٍّ كبير، وقبلها سياسة وكلائهما، بحيث أصبح التقارب بين القوتين الإقليميتين الشرط السياسي الذي بنى عليه الوسطاء مقارباتهم لوقف الحرب في اليمن، بمعزلٍ عن طبيعة الصراع المحلّي وجذوره، ومع أهمية التقارب السعودي - الإيراني الذي شكّل انعطافة مهمة في الإقليم، حيث خفض صراعاتهما في بلدان الحروب، بما في ذلك اليمن، إلا أن التهدئة العسكرية، وكذلك الجهود الدبلوماسية والوساطات السياسية بين المتصارعين لم تُنتج شروط السلام، ولا دفعت العملية التفاوضية خطوةً إلى الأمام، بل كرّست حالة انسداد سياسي، أصبح الخيار المتاح للمتدخلين والقوى الدولية لوقف الأضرار العابرة للحدود، وكذلك الأطراف المحلية، وإن صعد من تحدّياتها في هذه المرحلة.
دبلوماسياً، أنتجت المقاربات الخاطئة لطبيعة الصراع في اليمن حالة الانسداد السياسي، إذ إن تفضيل الوسطاء، على اختلاف أهدافهم، لحلول جزئية، تأتي من خلال السيطرة على الصراع ببعده الإقليمي، على حساب إنهاء الحرب في اليمن، إلا أنه منح المتصارعين موقع قوّة لفرض شروطهم، بحيث عطّلت المسار التفاوضي، وإذا كان ظلّ يراهن على الوساطة العُمانية في تحقيق اختراقٍ في الملفّ اليمني، وذلك لمركزية عُمان وسيطا دوليا وإقليميا، وعلاقتها الدبلوماسية مع إيران، ووكيلها المحلي، جماعة الحوثي، إلى جانب السعودية، ومن ثم الأطراف الفاعلة في حرب اليمن، فإن الوساطة حوت أسباب فشلها منذ البداية، إذ إن بناء مقاربتها لوقف الحرب في اليمن على تقليص تأثير العامل الإقليمي مقابل الحدّ من تأثيره على الدول المتدخّلة، وتجاهلها جذور الصراع الداخلية، وتأثير تداخلات هذين العاملين في مأسسة بُنية الحرب وتمكين أطرافها، أضاف تعقيدا للأزمة اليمنية وعطّل الوساطة العُمانية، إلى جانب أن تصعيد طرفين، لإدارة العملية التفاوضية جعل الوساطة مشروطةً بتفاهماتهما، مقابل استبعاد الفرقاء المحليين الذين يمثلون، في الواقع، ثقلاً عسكرياً وسياسياً، فضلاً وهو الأهم عن افتقار الوساطة، ليس لضماناتٍ فقط، لتسير المسار التفاوضي، بل أدوات ضغط فاعلة على الطرفين، لدفع العملية السياسية، إذ إن سلطنة عُمان، وإن نجحت في إدارة جولة أولى من المشاورات بين السعودية وجماعة الحوثي شهدتها العاصمة صنعاء في الثامن من إبريل/ نيسان الماضي، لكنها فشلت في تحقيق اختراق سياسي ملموس لدفع المسار التفاوضي، سواءً بخفض سقف المطالب التي تتبنّاها جماعة الحوثي، أو دفع السعودية إلى قبول اشتراطاتها. وما ينطبق على الوساطة العُمانية يسرى أيضاً على الجهود الأممية التي ما زالت تتبنّى مقاربتها التقليدية في إدارة الملفّ اليمني بالتركيز على تطويق الآثار الإقليمية للحرب أكثر من ايجاد حلّ جذري للحرب، يمثّل اليمنيين ويعكس مصالحهم. ومن ثم، فإن هذه المقاربات، وأيضا نتائجها على الأرض، جمّدت العملية السياسية، وأنتجت وضعا سياسيا وعسكريا صبّ في صالح المتدخّلين.
يدفع اليمنيون وحدهم ثمن الحرب، وثمن تجميد العملية السياسية، ومسارات التسويات والتفاهمات المتعثرة بين القوى المتصارعة
ظل المعطى الذي يحدّد خيارات السعودية إقليمياً، اليمن مصدر تهديد لأمنها القومي، وإن اختلف من مرحلة إلى أخرى بحسب حجم هذه التهديدات ومداها، وأيضاً تحوّلاتها. وإذا كان فشلها في كسب حربها في اليمن بتطويق خطر خصمها الإيراني من خلال القضاء على سلطة وكيلها دفع السعودية إلى تبنّي خياراتٍ سياسية، سواءً بالتأثير على الجهود الدبلوماسية في إدارة الملفّ اليمني، بحيث عكست مطالبها الأمنية أو بتحييد إيران، فإن هذه السياسة حققت لها قدراً من الاستقرار في حدودها، بما في ذلك تأمين مواقعها النفطية، إذ إن إعادة علاقتها الدبلوماسية مع إيران مكّنت السعودية من وقف التهديدات التي تنطلق من اليمن، كما أن مراهنتها على الوساطة العُمانية لدفع جماعة الحوثي إلى الانخراط في العملية السياسية خفّفت الضغط على السعودية بتحمّل تبعات عدم إنهاء الحرب في اليمن، بحيث أصبحت الجماعة وحدها الطرف المعرقل. ومع تعثّر الوساطة العُمانية، جرّاء الخلاف بين الطرفين على قضية دفع رواتب موظّفي الدولة في المناطق الخاضعة للجماعة والضمانات التي تسعى السعودية إلى انتزاعها منها لتأمين حدودها، فإنه، وإن أجّل خطط السعودية لترتيب خروج رسمي ينهي حربها في اليمن، إلا أن بقاء الوضع على ما هو عليه، أي استمرار جمود المسار السياسي لا يشكّل ضغطا سياسيا على السعودية، وذلك جرّاء القيود التي تعطّل من قدرة جماعة الحوثي على استئناف هجماتها على أراضيها، إلى جانب أن السعودية، ولأسبابٍ مختلفة، استطاعت عزل ارتدادات استمرار حالة الحرب في اليمن على موقعها الإقليمي والدولي، بوصفها طرفا متدخّلا، مقابل تحويل الحرب في اليمن إلى حربٍ بين أطرافٍ محلية، أي إلى مرحلة ما قبل تدخّلها العسكري، مقابل وقف تهديدات جماعة الحوثي على منشآتها النفطية من خلال توثيق علاقتها الدبلوماسية مع إيران سياسيا وإقتصاديا، إلى جانب سلطنة عُمان التي تمثّل الطرف الثاني في معادلة التأثير على الجماعة، ومن ثم فإن هذه السياسة تحجز للسعودية موقع الحياد الذي تعوّل عليه مع استمرار الصراع اليمني، وإن أدارت سلطة وكلائها في اليمن بحسب أولوياتها وأجنداتها، ومن ثم يمكّنها هذا الوضع من الالتفات إلى تحدّياتها الداخلية والخارجية، وممارسة دور إقليمي ودولي مختلف. ومع أنه من قصر النظر تبنّي السعودية وسائل وقائية في إدارة الملف اليمني من دون حلحلتها الواقع الذي أنتجته، كونها طرفاً رئيساً في الحرب، إضافة إلى دورها في دعم القوى المحلية التي أصبحت طرفا يعرقل سياستها في اليمن. ومن جهة أخرى، وفي سياق سلطة وكلائها، يظلّ المجلس الرئاسي خارج معادلة التأثير المحلي، سلما أو حرباً، بما في ذلك تعثّر الوساطة العُمانية بين السعودية وجماعة الحوثي، إذ إنها تتحرّك في سياق أولويات حلفائها، سواء السعودية، أو الإمارات، بما في ذلك إدارة صراعاتها البينية، وكذلك مراكز نفوذها في مناطق الثروات في جنوب اليمن، بيد أن الخطوات التي ستلجأ لها جماعة الحوثي، أياً كانت، ستعمل على إضعافها أكثر، وتعميق الصراعات بين قواها المتنافسة.
أفضلية القوة، إن كانت امتيازاً بالنسبة للمتصارعين، فإنه لا يعني في حالة جماعة الحوثي سوى امتلاكها قوة التهديد، عسكرياً
أفضلية القوة، إن كانت امتيازا بالنسبة للمتصارعين، فإنه لا يعني في حالة جماعة الحوثي سوى امتلاكها قوة التهديد، عسكرياً، ومن ثم الإضرار بمصالح القوى الإقليمية والدولية، إلى جانب، وهو الأهم، ارتباطها التحالفي مع إيران الذي صدّرها بوصفها وكيلا استراتيجيا استطاع تنفيذ ضرباتٍ ضد خصوم إيران وتهديد السعودية، أكبر الدول المنتجة للنفط في العالم، ومن ثم استطاعت جماعة الحوثي استثمار ورقة التهديد لصالحها، وفرض شروطها في العملية السياسية، سواء في الجهود الأممية أو الوساطة العُمانية، بيد أن مخاطر الوكالة لا تتوقف على خضوع الوكيل سياسياً لحليفه كحالة سلطة المجلس الرئاسي، بل تعطيل أدوات القوة التي ظلت تراهن عليها، وتمثل عماد استراتيجيتها في مضاعفة مكاسبها، إذ إن علاقة جماعة الحوثي بحليفها الإيراني، وإن منحها قدرا من الحرية في اتخاذ القرارين، السياسي والعسكري، فإن استعادة حليفها علاقته الدبلوماسية مع السعودية، وإن باركته الجماعة، إلا أنها قيّدت خياراتها إلى حد كبير، وتحديداً بتبنّي وسائل ضغطها التقليدية على السعودية، أي من خلال القوة العسكرية، ومن ثم إجبارها على تنفيذ اشتراطاتها في الوساطة العُمانية بتأمين السعودية دفع رواتب موظّفي الدولة في مناطقها، حيث لا تستطيع الجماعة المغامرة كما يبدو في استئناف هجماتها على السعودية، ومن ثم عرقلة مصالح حليفها الإيراني الذي يمضى في تثبيت شراكة متعدّدة مع السعودية، ومع أنها لا تزال تراهن على نجاح الوساطة العُمانية لانتزاع أكبر قدر من المكاسب على قاعدة الحصول بالسياسة على ما فشلت في انتزاعه بالحرب، إذ تعوّل على الوساطة العُمانية لترتيب وضعها الاقتصادي بما يتجاوز قضية دفع رواتب الموظفين في المناطق الخاضعة لها إلى تقاسم عائدات النفط مع سلطة المجلس الرئاسي، فإن استمرار تعثّر تفاهماتها مع السعودية يُضعف الجماعة، خصوصا مع عدم اتخاذها أي خطوةٍ للرد، فإلى جانب أنه يجعلها في حالة انكشافٍ على المستوى الشعبي، بما في ذلك السخرية من تهديدات زعاماتها السعودية، فإن مواردها الإقتصادية محدودة، على الرغم من مضاعفة الجماعة للأتاوات على المواطنين، وكذلك الرسوم الجمركية والضرائب على التجار، إلى جانب تنامي عائداتها من ميناء الحديدة، وتوسيع رحلات مطار صنعاء التي ستتضاعف بدءا من الأسبوع المقبل إلى ست رحلات إلى عمّان، فإن هذه العائدات والتدابير لا تمنحها أمانا اقتصاديا، ما يجعل من ضغط الحصول على مصدر ثروات دائم ومتجدّد تحدّيا للجماعة، وأيضا أولوية لمواجهة نفقات أجهزتها، وترضية قياداتها، ومن ثم ضمان استتباب حكمها في هذه المرحلة. لذلك ومع عدم قدرتها، في الوقت الحالي، على ممارسة ضغوط مباشرة على السعودية، أو تهديد الإقليم ومصالح القوى الدولية، فإنها ستستمر وفق سياسة تجريب قوّتها على خصومها المحليين، بإعاقة تصدير النفط من موانئ شبوة، وحضرموت، أي الضغط على سلطة المجلس الرئاسي، إلى جانب خوض مقاتليها معارك مع القوات الحكومية في بعض الجبهات الاستراتيجية، كجبهة جنوب مدينة مأرب، وإن ظلت معارك متقطعة، وتفاقم خسارتها اليومية لمقاتلين من حاضنتها الزيدية من دون أن تسفر عن نتائج ملموسة وتغيير المعادلة لصالحها، إذ إن تحريك جبهة مأرب بوصفها ورقة تهديد لانتزاع مكاسب تقتضي من الجماعة المجازفة.
في كلفة اليومي والمعاش، يدفع اليمنيون وحدهم ثمن الحرب، وأيضا ثمن تجميد العملية السياسية، ومسارات التسويات والتفاهمات المتعثرة بين القوى المتصارعة، إذ إن قوى الحرب، وإن استثمرت قضية رواتب موظفي الدولة، لن تعمل على إيجاد حلّ لمعاناتهم، بل سوف تستمر في توظيفها لانتزاع مكاسبها، إلى جانب معارك سلطات الحرب لفرض شروطها واستحقاقاتها السياسية، تمرّ كالعادة عبر قهر اليمنيين وإذلالهم، من تعطيل تصدير النفط، الذي لن تعاني منه سلطة المجلس الرئاسي، بل المواطنون في المناطق الخاضعة لها، إلى أشكال اقتصاد الحرب المتنامي التي تديرها سلطات (وقوى) الحرب المختلفة التي تمعن في سياسة التربّح ومضاعفة إيراداتها بطرق غير مشروعة وغير قانونية، مقابل تجويع اليمنيين والتنكيل بهم.