تضارب المصالح بين موسكو وطهران في سورية
دولتان، إحداهما إقليمية، إيران، وأخرى عالمية، روسيا، تقتسمان المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، وهما اللتان منعتا سقوطه، وتوسعتا في أرض المعارضة، فصارت "للنظام" أغلبية سورية. مناطق الدولتين جزء من المشهد السوري. وهناك تركيا وأميركا. ولتكتمل المأساة، هناك المناطق التي تحتلها إسرائيل. إذاً، سورية بأكملها محتلة. على الرغم من ذلك، هناك عقوبات مشدّدة على النظام، وضد حُماته، روسيا وإيران. تمنع العقوبات موسكو من التمتع بالاستثمارات التي عقدتها مع النظام. وكل الدول المتدخلة في الشأن السوري تعزّز مناطق نفوذها، وإذا كانت تركيا تؤمن احتياجات المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وأميركا وإسرائيل تفعلان ذلك، فإن روسيا وإيران تعاقَبان كما النظام، وحالة مناطق الأخير هي الأسوأ. وقد بدأت الحالة تُقلِق روسيا التي فعلت المستحيل لإعادة تعويمه قبل 2015 وبعده، والآن. الاشتراطات الأميركية والأوروبية واضحة إزاء روسيا. فعلى روسيا تهميش الوجود الإيراني في سورية، وبعدها يمكن إجراء تسوياتٍ معها، كالخطوة خطوة أو تسوية معينة ترضى موسكو. ويتضمن ذلك بقاء النظام الحالي فترة، ومن ثم إجراء إصلاحات فيه تؤدّي إلى انتقاله نحو نظامٍ جديد، يفتح الأفق نحو الدمقرطة، وتمكين السوريين من حكم أنفسهم.
بدت مؤشرات جديدة على خلافاتٍ عميقة بين روسيا وإيران وحزب الله، وتجلّت عبر عدم وجود إيران في منصة الدوحة، واستدعاء وفدٍ من حزب الله إلى موسكو، وتسريباتٍ تؤكّد ضرورة دمج الفرقة الرابعة بالحرس الجمهوري، أي التخفيف من سطوة ماهر الأسد في الجيش والسلطة، والطلب من حزب الله إعادة الصواريخ الدقيقة إلى إيران، والانسحاب من سورية، وطلبات أخرى في السياق ذاته، سياق التخفيف من الوجود الإيراني، وهذا مطلب إسرائيلي أميركي، ولكنه حاجة روسيا لتتفرد باستثماراتها وتتمركز في سورية، وهذا غير قابل للتحقق مع الوجود الإيراني الكبير، والفاعل في السلطة السورية، الذي يرى نفسه الحامي الحقيقي للنظام، والمانع سقوطه، وهناك فئات في السلطة تابعة تبعة كاملة لإيران. هنا يصبح الخلاف كبيراً؛ فروسيا تعتبر نفسها منقذة النظام، وتتخوّف من تفكّك أركان الدولة، بينما إيران تعتبر أنها من استدعت روسيا، وأغرتها بالاستثمارات المستقبلية، بشرط أن تظل هي المهيمنة على النظام السياسي، وهذا غير ممكنٍ في عرف الدول العظمى، وبالتالي يُشطَب.
منطق الدول العظمى إضفاء الهيمنة الكاملة على الدولة المحتلَّة، أو إشراك دول أخرى، لغاياتٍ محدّدة
منطق الدول العظمى إضفاء الهيمنة الكاملة على الدولة المحتلَّة، أو إشراك دول أخرى، لغاياتٍ محدّدة، ولأسباب معينة. الأخيرات يجري التراجع عنها، حينما تزال عقباتٌ كانت تمنع تلك الهيمنة، فكيف وتركيا وأميركا وإسرائيل مجمعاتٌ على ضرورة تهميش الوجود الإيراني. عدا ذلك، هناك إشكالية متصاعدة، تتعلق بإمكانية "تفكّك الدولة السورية"، كما نُقِل عن لافروف. وبالتالي، لا يمكن روسيا المخاطرة بما فعلته منذ 2011 في سورية، وهذا يقتضي تحقيق الشروط الإسرائيلية والأميركية والأوروبية، والمتعلقة بتخفيف الوجود الإيراني، لتُسلَّم سورية لروسيا.
الأزمة الاقتصادية الاجتماعية العميقة في النظام السوري، وبوادر شعبية للاحتجاج ضده، ينذران روسيا بالتحرّك نحو مداخل جديدة لاستمرار احتلالها وضمان مصالحها المستقبلية. إيران تعي التحليل أعلاه، وتعلم أنها مرفوضةٌ من دولٍ كثيرة، ومن أكثرية الشعب السوري، ولكنها أيضاً لن تغادر سورية سريعاً كما فعل النظام بمغادرة لبنان بليلة وضحاها عام 2005. عدم مغادرة إيران يستدعي تفاوضاً جديداً بينها وبين روسيا، ومماحكات على الأرض السورية، وربما تصفيات معينة في قلب السلطة ذاتها. لا تريد إيران الاقتراب من هذه اللعبة، فهي ستفتح على جولات وجولات، وكذلك لا تريدها روسيا. إيران معنيةٌ بالتخفيف من وجودها في سورية، ولم يعد ممكناً الاختفاء ضمن تشكيلات الجيش السوري أو ألاعيب أخرى؛ فالفرقة الرابعة قد تُدمج بالحرس الجمهوري أو تُفكك، وهي رسالة روسيّة إلى إيران.
قدرة روسيا على منع تفكّك الدولة السورية، مرتبطة بتنفيذ حلٍّ سياسيٍّ يبدأ من قرار مجلس الأمن 2254، وإعادة الشعب المهجّر إلى بلاده وأملاكه
مشكلة إيران أن استمرار وجودها الفاعل في لبنان مرتبطٌ بسورية، وهناك سردية قدمتها للشعب الإيراني عن سبب وجودها في سورية، والتخفيف "وربما الخروج العسكري" سيكون بداية الانحسار الإقليمي لها. مشكلتها أنّها تلعب بمنطقةٍ أصبحت تتحرّك فيها الدول الأقوى عالمياً، كروسيا وأميركا وخلفها أوروبا، وهناك الصين، وهناك حظ إيران السيّئ بسبب عدائها الشديد مع إسرائيل. الخلاف بين روسيا وإيران ليس جديداً، والمماحكات ليست جديدة، لكنها وصلت إلى لحظةٍ حرجة لروسيا ولمستقبل وجودها في سورية، وهذا يستدعي سياسةً جديدةً روسية، مفتاحها التخفيف من الوجود الإيراني في سورية، وإجبار النظام على تقديم تنازلاتٍ حقيقيةٍ للمعارضة، وقد تنتهي بالتخلي عنه تدريجاً. النظام وإيران يعيان أنهما غير قادرين على الحفاظ على السلطة في سورية، إذا هَددت روسيا بانسحابها، وبالتالي ليس في حوزتهما إلا الخضوع للروس، إن قرّروا إجراء تسوية مع الأطراف الدولية. ليس سهلاً تحليل اللحظة الراهنة في سورية، وأية خيارات ستَشق طريقها نحو المستقبل، وتكون منسجمةً مع حركة التاريخ وضمان مصالح لروسيا، وهذا غير ممكن من دون ضمان مصالح الشعب السوري.
مدخل روسيا إلى الطلب الجاد من الأميركان وتركيا وإسرائيل مغادرة سورية يفترض إخراج إيران ومليشياتها؛ وقدرة روسيا على منع تفكّك الدولة السورية، مرتبطة بتنفيذ حلٍّ سياسيٍّ يبدأ من قرار مجلس الأمن 2254، وإعادة الشعب المهجّر إلى بلاده وأملاكه، وحينها يمكن أن تبدأ أميركا وأوروبا بالمساهمة في النقاشات عن إعادة الإعمار، كما أكدت ذلك أوروبا في مؤتمر المانحين في بروكسل أخيراً.
يبدو أن روسيا صارت تفكر في هذا المدخل جدّياً، وليس واضحاً كيف سيتصاعد الخلاف بينها وبين إيران، وكيف سيستجيب قادة النظام للشروط الروسية، ولا سيما أن سياسات القادة تكاد تهدّد بقاء أركان الدولة السورية.