تصفيق التفويض
لم تخلُ عاصفة التصفيق المتكرّر الذي حظي به رئيس وزراء إسرائيل، ننتياهو، في أثناء القاء كلمته في الكونغرس الأميركي من تمثيلٍ مفتعل وإعدادٍ مسبق، بُغية إرسال الرسالة المطلوبة التي يحتاجها نتنياهو، لا ليواصل عدوانه على قطاع غزّة وحده، وإنما ليوسّع نطاق الدائرة لتشمل لبنان، جنوبه على وجه التحديد، وتطاول ما هو أبعد، اليمن وربما مواقع في العراق، وحتى إيران نفسها، وهو ما دلّ عليه اغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّه، غداة مشاركته في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، في عملية تجاوزت خطوطاً حمراء عدّة، بينها سيادة إيران ومهابتها.
نتحدّث عن التمثيل والإعداد المسبق في عاصفة التصفيق التي نمّت عن صفاقةٍ غير مسبوقة، من دون أن يغيب عن البال أنها عكست، إلى درجةٍ كبيرة، مشاعر المُصفّقين تجاه إسرائيل وسياستها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، وتقويضها الأمن والاستقرار في المنطقة العربية ومحيطها، كي نقول إنّ نتنياهو أراد من زيارته واشنطن وخطابه أمام الكونغرس انتزاع تفويض إضافي يحتاجه كي يواصل الحرب، ويماطل، ما وسعه ذلك، في إبرام اتفاقٍ مع حركة حماس يفضي إلى وقف الحرب وإعادة الرهائن الإسرائيليين، الأحياء منهم والأموات، إلى عائلاتهم، لأنّ بلوغ تلك اللحظة من التسوية سيعني فتح ملفات التحقيق والمساءلة المتراكمة ضده في الداخل الإسرائيلي. وفي هذه المماطلة، يُعوّل نتنياهو على اللحظة الأميركية الدقيقة حالياً، حيث لم يتبق على موعد الانتخابات الرئاسية إلا شهور قليلة، وتشير التوقعات، أو بعضها على الأقل، إلى رجحان فوز المرشّح الجمهوري دونالد ترامب فيها، مما سيمنح نتنياهو دفعة قوية في المضي بسياسته الراهنة التي أفصح ترامب عن دعمه التام لها، موجهاً النقد إلى خصمه جو بايدن بزعم أنه يحول دون بلوغ إسرائيل غايتها في القضاء على "حماس".
كان نتنياهو لا يزال في واشنطن حين سقط صاروخ على قرية مجدل شمس في الجولان السورية المحتلة، في عملية تحيط بها شكوك كبيرة، ليجعل منها مناسبة لتنفيذ عملية اغتيال القيادي في حزب الله، فؤاد شكر، في الضاحية الجنوبيّة من بيروت رغم مزاعم أميركيّة جرى ترويجها بأن واشنطن حذّرت حلفاءها في تل أبيب من استهداف العاصمة اللبنانيّة في أيّ رد فعلٍ على ما حدث في الجولان، ومضى نتنياهو أبعد من ذلك بتنفيذ عملية اغتيال إسماعيل هنيّة، في رسالة إلى كلّ من يهمه الأمر: "لسنا معنيين بالمفاوضات مع حماس... سنواصل الحرب حتى النهاية"، فكيف لمن هو جاد في مفاوضاتٍ لبلوغ تسوية أن يستهدف المفاوض الذي يمثل الطرف الآخر، باغتياله، وبلغ التمادي حدّه في اختيار طهران مكاناً للاغتيال في تحدٍّ سافر، واستدراج واضح لها للدخول طرفاً مباشراً في الحرب الجارية، غير مكترثٍ بتداعيات ذلك، بل سعياً إلى تك التداعيات بالتحديد لتأسيس واقعٍ جديد في المنطقة، يضع الجميع أمام الأمر الواقع.
تساؤلات تُثار بشأن حقيقة الموقف الأميركي مما جرى، وسط أنباء صحافيّة، لا نعلم مدى صدقيّتها، عن خلافٍ مزعوم بين بايدن ونتنياهو بشأن مسار التطورات اللاحقة في حال تلقت إسرائيل أية ضربات ردّاً على اغتيالها شكر وهنيّة، وتقول تلك المزاعم إنّ بايدن منح نتنياهو أسبوعاً أو أسبوعين للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وإنّ وفداً إسرائيلياً سيغادر قريباً إلى القاهرة لاستئناف المباحثات، وسط أنباء عن توترات كبيرة بين نتنياهو والفريق الإسرائيلي المفاوض، وأنّ رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) رونين بار قال لنتنياهو في اجتماع أخيراً: "نشعر أنك ترسلنا للتفاوض ثم تجري تغييرات على الخطوط العريضة للصفقة".
لا مؤشّرات جديّة على أنّ استنئاف المفاوضات بناء على طلب أميركي، ستفضي إلى حلّ. ما أكثر ما قيل مراراً، في السابق، إنّ الاتفاق بات وشيكاً، ليلي ذلك مباشرة تصعيد إسرائيلي نوعي كبير! والأرجح أنّ مثل هذا السيناريو ينتظر الجولة الجديدة من التفاوض، هذا في حال تمّت بالفعل، وهو أمر غير مؤكّد بعد، وسط إجماع لدى كل الفرقاء والمتابعين أن "نتنياهو لا يريد أن يوقف الحرب بينما يطلق تصريحات واهية للتعتيم على جرائمه وتفادي ما قد يترتب عليها من عواقب". وازداد تعنّتاً بعد عودته من واشنطن، منتشياً، وترنّ في أذنيه أصداء التصفيق الصفيق الذي سمعه وشاهده في الكونغرس.