تركيا إلى إعادة صياغة النظام السياسي
خسارة حزب العدالة والتنمية التركي ليست هي مفاجأة الانتخابات المحلية التي انتظمت الأحد الماضي، فهو أصلا فقد في عام 2019 أهم البلديات الكبرى، إسطنبول وأنقرة أزمير. وما يسترعي التوقف أمامه أكثر في نتائج هذه الانتخابات أنها تشكّل مؤشّراً مهمّاً إلى إعادة صياغة النظام السياسي، الذي قام، منذ 22 عاماً، على هيمنة هذا الحزب على الحكم. وظهر واضحاً أن صناديق الاقتراع تحمل رسائل تتجاوز وظيفة (ودور) الانتخابات المحلية التي تنحصر عادة في شؤون الخدمات، ولا تقترب من السياسات العليا للدولة. وهذا ما يفسّر عدم نجاح تدخّلات الرئيس رجب طيب أردوغان في الحملة الانتخابية، من أجل استعادة كبرى المدن، بل فشلت، وأعطت نتائج عكسية في مدن أخرى. وما حصل هو استمرار تراجع "العدالة والتنمية" وحليفه "الحركة القومية" على نحو غير مسبوق في بعض البلديات التي كانت تعد معاقل خاصة. وهنا يمكن تسجيل نقطتين مهمّتين: الأولى تقدّم حزب الشعب الجمهوري بوصفه قائداً لقاطرة المعارضة، والذي قطع مسافة واضحة على طريق ترميم بيته الداخلي، وتوحيد قوى المعارضة ضد الحزب الحاكم. والثانية بروز حزب الرفاه قوة ثالثة، حيث تمكّن من انتزاع أصوات المحافظين الإسلاميين، ووصل إلى نسبة 6%، على حساب حزب العدالة والتنمية. وهذه مسألة مرشّحة للتطور في المدى المنظور في ظل الانقسامات الداخلية التي يعاني منها الحزب الحاكم منذ حوالي عقد، وأدّت إلى انشقاقات كبيرة في صفوفه، من أبرزها خروج كتلة وازنة بزعامة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، الذي أسّس حزب المستقبل الفاعل على مستوى المعارضة.
صار واضحا أن "العدالة والتنمية" لم يعد صاحب الأكثرية على مستوى الشأن الداخلي، ورغم أنه يسيطر على الحكومة والبرلمان، فهو ليس صاحب الكلمة الأولى في ما يخصّ الحياة العامة، خصوصاً الخدمات الأساسية، التي تقرّر اتجاهات صناديق الاقتراع، وهذا ما تبين من خلال التصويت العقابي الذي مارسته كتلة المتقاعدين التي يقارب عددها نحو عشرة ملايين، وقد عبّر هؤلاء عن عدم رضاهم عن رواتبهم وأجورهم، التي لم ترتفع بما يناسب التضخّم، ومن شأن ذلك أن يوجّه الضربة القاضة لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في عام 2028.
أسباب خسارة "العدالة والتنمية" (الحاكم) اقتصادية وسياسية، فلم يتمكّن في السنوات الخمس الأخيرة من وقف التراجع الاقتصادي، وأبرز مظاهرها فقدان العملة المحلية قدرا مهمّا من قيمتها أمام العملات الأجنبية، بلغ خلال العام الماضي 35%، ما أدّى إلى وصول التضخّم إلى مستويات قياسية (67%)، وقاد إلى ارتفاع حادّ وسريع في أسعار المواد الأولية والخدمات، وتراجع القدرة الشرائية لفئات واسعة، تآكل دخلها، ولم يعُد يتماشى مع تطوّرات السوق. والسبب الثاني تحالف الحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية، في مايو/ أيار الماضي، مع المرشّح القومي سنان أوغان، مرشّح تحالف الأجداد، المؤلف من أحزاب يمينية صغيرة متطرّفة هي حزب الظفر، حزب العدالة، التحالف التركي وحزب بلدي، القاسم المشترك بينها هو العداء للاجئين الأجانب، وخصوصاً السوريين. وأدّى هذا التحالف إلى مفعول سلبي في الأوساط التركية المعادية للعنصرية، وقلّل من مصداقية أردوغان في ظل الاعتداءات العنصرية، وحملات التحريض ضد السوريين، والاعتداءات التي يتعرّضون لها. ويعود السبب الثالث إلى التقلبات في السياسة الخارجية، والانتقال، سريعاً، من العداوة إلى نقيضها. وهو ما أضرّ بصورة تركيا قوة إقليمية صاعدة، ذات دور ووزن محسوبين. وأدّى التخبط إلى إضعاف مواقف أنقرة في عدّة ملفات، وخاصة في القضية الفلسطينية، وهذا ملحوظ بوضوح في الموقف المهادن من الحرب الإسرائيلية على غزّة.