ترسيم الفرز المذهبي
أدت الأحداث في اليمن، وقبلها في سورية، مع الاختلاف بينهما، إلى تعميق الشرخ الطائفي، بشكل لم يسبق له مثيل في العالم العربي، ولم تكن قمة شرم الشيخ إلا ترسيماً لهذا الفرز الخطير، ليس في العالم فحسب، بل في المنطقة بشكل عام.
ليس الانقسام، في جوهره، دينياً، بقدر ما هو صراع قوى يأخذ الطابع الطائفي، تستفيد منه إيران ومعظم الأنظمة العربية، لكنه يصبح طائفياً بامتياز بين الشعوب، حتى بين غير الملتزمين بتعاليم شيعية أو سنية، إذ يصبح صراع هوياتٍ، يكرس الهوية الطائفية فوق الهوية القومية والاعتبارات الأخرى. أي أننا نشهد انقساماً طولياً يفرّق الشعوب العربية، داخل حدود العالم العربي، وفي كل دولة على حدة، فإننا نتجه نحو تفتيت المجتمعات وتهديد لمفهوم الدولة، وهزيمة لطموحات الشعوب العربية بالتحرر والعدالة السياسية والاجتماعية.
عملياً، الفرز الطائفي هو الحلقة الأخطر في الثورات المضادة، إذ إن انتصار الهويات الطائفية، بالإضافة إلى الانتماء العشائري، يمنع استمرار ليس الثورات فحسب، بل إرادة التغيير عند الشعوب والأفراد، إذ تطغى غريزة الدفاع عن الهوية الطائفية "المهددة" على أي أمل في النضال من أجل مجتمع العدالة والحرية.
المخيف أن مثقفين كثيرين وقطاعات من الشباب العربي، التي شاركت وقادت الثورات وقعت لفريسة "الهوية الطائفية"، إلى حد جعل من الانضمام لداعش أو التنظيمات الطائفية مغرياً، خصوصاً لدى المهمشين، بغاية الانتقام أو الحفاظ على النفس.
الذعر والخوف مكّنا الأنظمة العربية والإقليمية من التعبئة والتحشيد، لتظهر كأنها المنقذة فتتمكن من الاستمرار بسياسات التفقير والقمع، فلا مظاهرات ولا مطالبات شعبية، واختفى شعار "الشعب يريد"، فقد أصبحت الشعوب خائفة من إرهاب التنظيمات المتطرفة أكثر من خوفها من الأنظمة البوليسية.
الصورة أكثر تعقيداً من الفرز الطائفي على مخاطره، إذ شكلت داعش ومثيلاتها ذريعة للعودة إلى أحضان الأنظمة، وإن كانت هناك شرائح تعتقد وتجادل بأن داعش هي خط الدفاع الأهم للحد "من الهيمنة الإيرانية أو الشيعية"، وهذه مقولة منتشرة لدى شرائح أوسع من نطاق المتعصبين مذهبياً أو دينياً.
إذ نرى التعصب المذهبي الناتج جزئياً عن الخوف، يحل تدريجياً مكان التيارات اليسارية والقومية التي قادت الحركات الشعبية في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات، وتراجعت منذ الثمانينات، ما أدى إلى تفوق التيارات الإسلامية وزرع بذور التعصبين، الديني والمذهبي، بتواطؤ الأنظمة التي رأت في الأحزاب الدينية أداة لضرب المعارضة اليسارية والقومية.
التيارات اليسارية والعلمانية منقسمة، الآن، على نفسها بسبب الموقف من النظام السوري، فحتى لو لم تقع تحت سيطرة التفكير المذهبي، فإنها دخلت مرحلة جمود عقائدي، يجعل قسماً منها يؤيد بشار الأسد، بحجة حماية العلمانية ومواجهة الاستعمار، وتغض النظر عن جرائم الأنظمة التي تؤيدها في إيران وسورية. فأصبحت الساحة مفتوحة للأنظمة والتيارات الطائفية، فالأنظمة رأت فرصة في استرداد سطوتها، وجاءت الأزمة اليمنية لتكمل الحلقة، خصوصاً أن إيران استغلت حالة التهميش التي عانى منها الحوثيون، لاستغلالهم لتوسيع نفوذها، كما فعلت السعودية في السابق.
الغالب الأكبر هو التفتيت الطائفي، تحت شعار مواجهة النفوذ الإيراني، فيما تقصر الأنظمة عن إشهار موقف سياسي من إسرائيل، هو تحشيد وترسيم لانقسام طائفي مدمر، لم نر كل تداعياته بعد؟.