ترسيم الحدود وحديث التطبيع

16 أكتوبر 2022
+ الخط -

منذ الإعلان عن الاتفاق اللبناني الإسرائيلي، بوساطة أميركية، لترسيم الحدود البحرية وبدء الاستفادة من حقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط، لم يهدأ الحديث عن تبعات وأبعاد مثل هذا الاتفاق بين مؤيّد ومعارض. وانقسم هؤلاء بحسب الانتماءات السياسية، ليس على المستوى اللبناني الداخلي فحسب، بل حتى على الصعيد العربي. فمؤيدو حزب الله والمعسكر الإيراني (إذا صحّت التسمية)، داخل لبنان وخارجه، طُربوا لاتفاقٍ كهذا، واعتبروه "انتصاراً" لما يسمّى "محور المقاومة"، واستفاضوا في الحديث عن "حنكة" حزب الله وأمينه العام، وأن الجانب الإسرائيلي لم يكن ليوافق على "المطالب اللبنانية" لولا التهديدات التي أطلقها حسن نصر الله باستهداف منصّات الغاز الإسرائيلية في حال بدأ الاستخراج من حقل كاريش الذي كان متنازعاً عليه.

أما معارضو الاتفاق، فهم بالأساس معارضون لحزب الله والمحور الإيراني. ورغم أن انتقاداتٍ كثيرة ممكن أن تساق للاتفاق، خصوصاً في ما يتعلق بالتراجع اللبناني عن المطالب التي كان يرفعها في بداية التفاوض، إضافة إلى غموض الكثير من البنود التي لا يزال الجانب اللبناني متحفظاً بشأن نشرها، إلا أن هؤلاء فضلوا التركيز على تبعات اتفاق الترسيم على شكل العلاقة اللبنانية الإسرائيلية، واعتبار ما جرى عمليّاً اعترافاً لبنانياً بإسرائيل، وبدء التطبيع معها. وعلى هذا الأساس خرجت الكثير من التحليلات التي تشير إلى أن الترسيم هو بداية طريق إلى "اتفاق سلام" أو هو جزء من هذا الاتفاق.

تحليلات كهذه ليست مبنية إلا على منطق النكاية السياسية، وليس لها أي أساس واقعي بأي شكل من الأشكال، خصوصاً أن الاتفاقات أو التفاهمات بين لبنان وإسرائيل ليست جديدة، وليس هذا أول اتفاق أو تفاهم يُبرم بين الطرفين. وإذا كانت حجة أصحاب مقولة "التطبيع" مبنية على فكرة ترسيم الحدود، وبالتالي الاعتراف بإسرائيل كدولة ذات حدود، فبداية يمكن الإشارة إلى أن الترسيم الحالي هو ترسيم اقتصادي وليس جغرافيّاً، تالياً وهو الأهم، كيف يمكن ترسيم الحدود مع "دولة" غير معترف بحدودها، فالدستور الإسرائيلي لا يقر حدود هذه "الدولة"، ويبقيها مفتوحة في ظل المطامع الاستعمارية والتوسعية لدولة الاحتلال.

إضافة إلى ذلك، وكما أشرنا آنفاً، فإن هذا ليس الاتفاق الأول بين لبنان وإسرائيل، ويمكن العودة إلى عام 1949 حين جرى التوقيع على اتفاق الهدنة بعد حرب 1948 وإعلان "دولة إسرائيل"، فهل كان يمكن اعتبار هذا الاتفاق اعترافاً لبنانياً بهذه الدولة. وإذا أردنا العودة إلى الماضي القريب، يمكن الإشارة إلى "تفاهمات نيسان" عام 1996، والتي أعقبت عدوان "عناقيد الغضب" الإسرائيلي على لبنان. حينها جرى التوصل إلى هذه التفاهمات، وشُكّلت لجان من الطرفين بقيت تجتمع مباشرة حتى عام 2006 الذي شهد حرب تموز. فهل كان هذا التفاهم وهذه اللقاءات اعترافاً؟

وحتى إذا نظرنا إلى مرحلة ما بعد عدوان 2006 وصدور القرار الدولي 1701، فإن تلك المرحلة شهدت اجتماعات ولقاءات ثنائية برعاية الأمم المتحدة لرسم ما بات يسمّى "الخط الأزرق" الفاصل بين حدود لبنان وحدود فلسطين المحتلة. خط يمكن اعتباره مشابهاً للترسيم الحدودي، غير أنه عملياً ليس كذلك، بل خط فض اشتباك، تماماً كما كان عليه الحال في اتفاق الهدنة عام 1949.

هناك مداخل كثيرة لانتقاد اتفاق ترسيم الحدود البحرية، بداية من ادعاءات النصر الفارغة، فلبنان عمليّاً تنازل عن بعض مطالبه لإرضاء الولايات المتحدة، مروراً بوعود الرخاء الزائفة في ظل غموض حجم الغاز في حقل قانا وتكلفة استخراجه، وصولاً إلى الاستغلال السياسي للاتفاق من كل طرف لبناني لتجييره لمصلحته. مداخل كثير للانتقاد، لكن التطبيع ليس واحداً منها.

حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".