ترامب .. الشخص والشبح

25 يناير 2021
+ الخط -

خرج دونالد ترامب من البيت الأبيض، وهو يلوّح بالعودة إليه. وعلى الرغم من أن اقتحام من وُصفوا بأنصاره مبنى الكونغرس كان نقطة فاصلة ساعدت على إتمام عملية نقل السلطة إلى الرئيس بايدن بسلام، إلا أن عملية الاقتحام ذاتها، وما سبقها من إشارات تحريضية، قام بها ترامب، قبل أن يتراجع ويغيّر خطابه خشية الملاحقة القانونية، كانت كفيلة بإثارة هواجس حقيقية من نياته، ليس شخصاً وحسب، ولكن أيضاً بصفته رأس حربة تلك الظاهرة، أو بالأحرى التيار اليميني المتطرّف الذي بدأ يفرض نفسه فاعلاً مهماً على الساحة الأميركية.
من شأن ذلك التداخل العضوي بين العنصري الشعبوي دونالد ترامب وموجة التطرّف اليميني المتصاعد أن يُكسب إشارات ترامب وتلميحاته، في ساعاته الأخيرة، أهمية كبيرة ودلالات يجب التوقف عندها. فهي إن لم تكن تعني أن ترامب عائد أو لن يغادر الساحة أصلاً، فهي مؤشّر على أن التيار الذي يقوده أو يرمز إليه ترامب، لن يعجز أن يجد قيادة أو رمزاً آخر، يجسّد جموح شريحة معتبرة من المجتمع الأميركي وعنصريتها وتطرّفها. 
وإذا كان ترامب قد أخطأ بدفع هؤلاء المتطرّفين إلى الاعتداء على مبنى الكونغرس بشكل همجي أقرب إلى الإرهاب من الاحتجاج، فإن ذلك الانفلات ذاته هو الذي ساعد على تمرير مراسم تنصيب بايدن بسلام، بعد أن تراجع الترامبيون "اليمينيون" خطوةً إلى الوراء أمام انتفاضة الأميركيين الغيورين على ديمقراطيتهم.
كشف تضارب مواقف ترامب وتصريحاته في الساعات الأخيرة لرئاسته المأزق الذي يعانيه، باعتباره رئيساً دعا إلى الفوضى، وحرّض بغرض انتهاك حرمة مقارّ مؤسسات رسمية وكياناتها، ولكونه قائداً أو رمزاً لتوجّه يميني عنصري تنامى بين الأميركيين. لذلك جاءت كلمات ترامب الأخيرة غامضة غير متسقة، وتدعو إلى التساؤل والتفكّر في نياته المستقبلية، خصوصاً في ظل الإحباط الذي أصاب مناصريه بعد تصريحاته الاستدراكية بشأن ضرورة محاسبة أولئك الذين اقتحموا الكونغرس.
حاول ترامب الهروب من تبني موقفٍ واضح، قد يحسب عليه، وقد يستخدم ضده قضائياً، فركز في كلمته الوداعية في قاعدة أندروز الجوية، بعد مغادرته البيت الأبيض، على أنه حقق إنجازات غير مسبوقة، وقطع أشواطاً نحو استعادة "أميركا العظيمة". وبدا هذا الإصرار المتجدّد على أنه حقق إنجازاتٍ غير مسبوقة، تمهيداً لعودة سياسية لاحقة. 
ويتضافر هذا التوقع مع كلمة ترامب التي ألقاها في باحة البيت الأبيض قبل مغادرته، حيث قال مودّعاً الصحافيين: "وداعاً.. آمل ألا يكون طويلاً"، ثم أكد المعنى ذاته في قاعدة أندروز بالقول: "سنعود بشكل أو بآخر". وكان ترامب قد سجّل كلمة قبل مغادرته بيومين، قال فيها لأنصاره: "لقد بدأنا حركة ستستمر". ولا تعني هذه الإشارات المتتالية فقط أنه لا يزال غير معترف بالهزيمة، بل الأهم أنها تكشف نيته عدم الخروج من الساحة السياسية، ولا يريد تخييب آمال مؤيديه. 
ربما كانت هذه "حلاوة روح" لا أكثر. لكنها في حالة ترامب يجب عدم الاستهانة بها، فقياساً على التشبيه نفسه، قد نفاجأ بأنه "بسبعة أرواح". لكن الأهم أن ترامب العنيد المراوغ قد يجد في استمرار الوجود السياسي، وإنْ من خارج البيت الأبيض، مخرجاً له ومدخلاً لمواجهة الملاحقات القضائية والإعلامية التي تنتظره، والرد على خصومه، بطريقة أنّ الهجوم أفضل طريقة للدفاع. 
لا يعني ذلك أن ترامب سينجح سياسياً، أو لاعباً جديداً في المشهد الأميركي، لكنه سيبقى رمزاً وتجربة تغري مؤيديها بالتكرار. وسيظل ترامب، الشبح والرمز والفكرة، باعثاً لآمال المتطرّفين والعنصريين داخل أميركا وخارجها. وإن كان ترامب "مات" سياسياً، فروحه مُلهمة ومُغذية ليمينية 74 مليون أميركي وتطرّفهم، وسيزيدون. وفي هذا حديث آخر.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.