تدابير بناء الثقة قبل الحوار الوطني في مصر
تدفع مبرراتٌ المراقب إلى التشكيك في جدّية مبادرة الحوار الوطني الشامل التي دعا إليها، أخيراً، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. تكليف إدارة المؤتمر الوطني للشباب لتنظيم هذا الحوار، مع وعد السيسي بحضور الجلسات الختامية، والنظر في مستخلصات الحوار، يعد في ذاته مؤشّراً مقلقاً على أنّ هذا الحوار لن يكون سوى حلقة جديدة من المنتديات الدعائية التي عكف النظام الحاكم على تنظيمها خلال السنوات الأخيرة تحت رعاية الرئيس، والتي تتصف بأنها فعاليات احتفالية، تقتصر المشاركة فيها ووضع أجندتها على الدوائر القريبة من السلطات الحاكمة وبرعاية الأجهزة الأمنية. وقد اتسمت هذه الفعاليات السابقة بوصاية الرئيس الأبوية على ما يناقش في هذه الفعاليات، وهو الأمر الذي يتناقض كلياً مع منطق "الحوار الوطني الشامل الذي لا يستثني أحداً"، كما وعد الرئيس في خطابه خلال إفطار الأسرة المصرية. من ناحية أخرى، ما زالت الأجواء الذي تلت الدعوة إلى هذا الحوار الوطني مطبوعةً بالقمع والخوف.
لم تتوقف حالات الاعتقال التعسفي لمنتقدي السلطة الحاكمة منذ انطلاق هذه الدعوة. على سبيل المثال، اعتقلت السلطات أخيراً الأكاديمي والناشط السياسي، المقيم في الولايات المتحدة، أمجد الجباس، بمجرد نزوله مصر لقضاء إجازه العيد، ولم تعرف أسرته بعد ملابسات الاعتقال، أو الاتهامات الموجهة إليه. كما قرّرت نيابة أمن الدولة حبس الإعلامية هالة فهمي بالاتهامات الفضفاضة نفسها ذات الطابع السياسي، والتي دأبت السلطة على توجيهها للمعارضين، بعد تحذيرها من سيطرة الأجهزة الأمنية والمخابراتية على الإذاعة والتلفزيون. كما توالت حالات الوفاة داخل السجون وسط النشطاء السياسيين جرّاء الإهمال الطبي وسوء الرعاية، فتوفي المحامي علي كسّاب في سجن العقرب، وهو المحبوس منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، ثم توفي رضوان ناصف، المحبوس على ذمة قضايا مختلفة منذ عام 2013، إثر معاناته الفشل الكلوي وسوء الرعاية الصحية في محبسه. كما استمر خطاب التحريض والتخوين ضد فصائل من المعارضة المصرية، والذي رافق خطابات عبد الفتاح السيسي. والمثير للدهشة أن اللغة العدائية ضد بعض فصائل المعارضة، خصوصاً في المهجر، تكرّرت في تصريحات إعلامية وتدوينات على شبكات التواصل الاجتماعي لأحد أعضاء لجنة العفو الرئاسي، والتي شكّلها الرئيس للنظر في إمكانيات العفو عن المحكوم عليهم في قضايا سياسية، فالمفترض أن تعمل هذه اللجنة بشكل محايد، كي تطمئنّ لها أسر السجناء، ويتواصلوا معها، لكن هذه التصريحات كانت كفيلة بترهيب كثيرين منهم، خصوصا من أسر سجناء جماعة الإخوان المسلمين، والقريبين منها.
استمرّ خطاب التحريض والتخوين ضد فصائل من المعارضة المصرية، وأيضا اللغة العدائية
سيكون نجاح لجنة العفو الرئاسي في تحرير بعض سجناء الضمير والمحكوم عليهم في قضايا سياسية مصدراً للارتياح، لكن ما تحتاجه مصر بعد سنوات من القمع والإقصاء، وفي ظل أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، هو تغيير نوعي في السياسات، وليس تحرير عدد محدود من المعتقلين بشكلٍ انتقائي وعشوائي، ثم استبدالهم بآخرين. في هذا السياق، دعت عريضة شعبية مفتوحة للتوقيع، بمبادرة من أكثر من 60 ناشطا سياسيا وحقوقيا مصريا مقيمين خارج مصر وداخلها، وممثلين لمختلف التوجهات السياسية والحقوقية، إلى حتمية بناء الثقة أولاً بين النظام الحاكم ومختلف مكونات المجتمع المدني والسياسي، شرطا لجدّية أي حوار سياسي وطني شامل. ويثبت إصدار مثل هذه العريضة وغيرها من بيانات حول مبادرة الحوار الوطني رغبة قطاع واسع من المكوّنات السياسية والحقوقية المصرية للتفاعل البناء مع السلطة الحاكمة لما فيه من مصلحة للوطن والمجتمع شريطة الجدّية، وتوفر الإرادة السياسية لدى نخبة الحكم. وتشتمل تدابير بناء الثقة التي حدّدتها العريضة الشعبية على سلسلة من الإجراءات والتعهدات العاجلة للتخفيف من أزمة حقوق الإنسان في البلاد، وتهيئة المناخ السياسي لحوار وطني شامل.
تتكامل هذه الإجراءات مع بعضها بعضا، ولا يمكن تصوّر حوار وطني حقيقي بدونها، فلدى السلطة الحاكمة التي قادت استفحال الأزمات الإنسانية في المجتمع، والتي تنادي نفسها اليوم بالحوار الوطني، مسؤولية سياسية وتاريخية لاتباع مقاربة شاملة لضمان الحد الأدني من الحقوق، والمتمثل في ضمانات الحرية والأمان الشخصي، فلا يمكن اختزال التعامل مع ملف المعتقلين المحكوم عليهم في القضايا السياسية، في عدد محدود من الإفراجات أو قرارات عفوٍ تجري وفقاً لأهواء أو تحيزات سياسية أو إرضاءً لبعض الشخصيات العامة. لابد من تطبيق معايير واضحة لإنهاء معاناة كل من فقد حريته في قضايا رأي أو قضايا سياسية، كما ينبغي النظر في جميع الأحكام التي صدرت في سياق انتقامي، وتشوبها اختلالات في ضمانات المحاكمات العادلة، بما فيها الأحكام التي صدرت غيابياً في حق معارضين ونشطاء خارج مصر، والتوقف عن توظيف قوانين مكافحة الإرهاب، والإدراج على قوائم الإرهاب لمصادرة حقوق المعارضين وحرياتهم. كما يتطلب الأمان الشخصي وقف صور الملاحقات والضغوط الأمنية على منظمات حقوق الإنسان، والمشتغلين في الإعلام، وأعضاء الأحزاب السياسية وقياداتها، والعودة الآمنة وبدون شروط لجميع النشطاء السياسيين والحقوقيين والإعلاميين الذين اضطرّوا إلى البقاء في المهجر بفعل سياسات النظام.
لا يمكن اختزال التعامل مع ملف المعتقلين المحكوم عليهم في القضايا السياسية في عدد محدود من الإفراجات
وعلى الرغم من المنطق الحقوقي والإنساني لهذه المطالب، إلا أنها، في الحقيقة، مطالب سياسية بامتياز، لكي يكون هناك حوار سياسي بين أطراف سياسية ووطنية تشكل المجتمع المصري بتنوعه، لا حوار أحادي بين السلطة الحاكمة وأنصارها. وتشمل تدابير بناء الثقة أيضاً ضمانات التمثيل الواسع في التحضير والمشاركة في الحوار الوطني من دون إقصاء أي فصيل سياسي، وبمشاركة منظمات المجتمع المدني المستقلة. كما ينبغي أن تتّسع أجندة الحوار لتشمل القضايا الوطنية الملحّة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي مقدمتها مستقبل الإصلاح السياسي، وسبل التعافي من أزمة حقوق الإنسان المركّبة التي عانى منها المجتمع المصري بشكل منهجي منذ يوليو/ تموز 2013. هناك مؤشّرات تستدعي الحذر من نوايا السلطة الحاكمة في مقاومة التوجه الإصلاحي الذي دعت إليه القوى السياسية والحقوقية الموقعة على البيان، وعقد حوار وطني كرنفالي شكلي، تسعى الحكومة، من خلاله، إلى التغطية على فشلها الاقتصادي والاجتماعي، وتجديد شرعية الرئيس عبد الفتاح السيسي من دون إحداث أي تغييرات نوعية في التوجهات السلطوية الداخلية للنظام للحاكم. لكن تفاعل قطاعات مختلفة من القوى السياسية والمدنية في الداخل وفي المهجر، وبشكل مشترك، مع متطلبات الحوار الوطني وشروطه والخطوات المطلوبة لبناء الثقة، قد يشكّل فرصةً لبناء تحالف سياسي وحقوقي عريض يجتمع ويتوافق فكرياً وحركياً على الأولويات الحقوقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث يكون هذا التحالف بمثابة قوى ضاغطة داخلياً وخارجياً تستوعب دقّة اللحظة الاقتصادية والاجتماعية التي تمرّ بها مصر، لإحداث تغييراتٍ في المشهد السياسي على المدى الطويل.