تحطيم المجتمع يحطّم الهوية

28 يناير 2023
+ الخط -

سؤال الهوية لا ينضب، فهو يعالج واحدةً من أهم وأعقد القضايا التي تناقش في العقود الأخيرة، وهي تبدو ثابتة ونتاج مرحلة تاريخية طويلة ومعقّدة، ونتاجا موضوعيا لا يمكن التحكّم به، لكننا اليوم نعرف أن الهويات، بما فيها الهوية القومية، اختراع حديث، فهي متغيّرة ومن الممكن التحكّم بها والتأثير عليها، فشكل الجماعات البشرية وتعريفها ذاتها وتعريف الأفراد أنفسهم، والذي يبدو أنه نتاج تطوّر موضوعي ذاتي، يقع دائماً تحت تأثيرات وضغوط تدفع الجماعات والأفراد لتعريف أنفسهم على هذه الصورة أو تلك.

لا يحمل المجتمع الواحد هوية واحدة، فالهويات الجزئية هي المكوّن الرئيسي للجماعات الفرعية، فحتى عندما تحمل المجتمعات هوية جامعة، فإنها تعاني من تناقضات وصراعات الهويات ذاتها، عندما يتم النظر إليها بوصفها جماعاتٍ تحمل هويات فرعية، ويمكن إدارة الهويات المتصارعة سياسياً في إطار تصالحي تعدّدي، كأن يدار المجتمع بعملية ديمقراطية تحسم الصراعات، عبر قواعد الصراع الديمقراطي، بتنظيمها عبر عملية مقنونة بقواعد دستورية متوافق عليها من الجميع وملزمة للجميع، يقبل المتصارعون فيها نتائج الصراع مؤقتاً، على أساس أن استمرار الصراع عبر الآلية الديمقراطية يمنح الخاسر في المرّة الأولى أن يُعدّل ميزان القوى لمصلحته في المرّة المقبلة، أي أن العملية الديمقراطية مفتوحة، ولا تُغلق على نتائج آنية، فهي، حتى لو كانت محكومةً بسقوف قوية، فإنها تمنح الأمل للجماعات الأقلية بالمعنى السياسي أن تتحوّل إلى أغلبية، كما تمنحهم الحقّ في التعبير عن أنفسهم بالشكل الديمقراطي الحر، حتى لو بقوا أقلية، أي أنه ليس من مهام الأغلبية الديمقراطية استئصال الأقلية.

ما الذي يحصل عندما لا تجد الهويات الفرعية قواعد ديمقراطية تجعلها قادرة على التعبير عن ذاتها؟ وما الذي يحصل عندما تقمع السلطات الحاكمة هذه الهويات، وتعمل على إلغائها بالأساليب القمعية؟ وكيف تستطيع الجماعات الهامشية الحفاظ على هويات فرعية، وهي تتعرّض للقمع الشديد من السلطات؟

حتى عندما تحمل المجتمعات هوية جامعة، فإنها تعاني من تناقضات وصراعات الهويات ذاتها

يمكن القول احتياطاً إن صراعات الهوية تحاول أن تحجُب الصراعات السياسية، وتنقل المسمّيات إلى مجال آخر، بحيث يخرج الصراع الهوياتي من مجال الصراع السياسي، ليعطى صفاتٍ أخرى تُبعده عن إطاره الطبيعي، بوصف الصراع يقع فعلياً في المجال السياسي. ولكن نقل هذا الصراع ومنحه إطاراً آخر يجعله يبدو أقلّ خطراً على السلطة التي تحاول الاحتفاظ لنفسها بكل مجال القوة، واحتكاره بشكل نهائي، وإخراج الجماعات السياسية منه، بالتركيز على هويتها الفرعية، بوصفها هويةً من الممنوع الحديث عنها. وبالتالي، يأخذ المنع المعنى الاجتماعي، إلى حد كبير، في الوقت الذي يكون جوهره سياسيا بامتياز. ولكن هذه الهويات التي تبدو غير خطرة في الأوقات العادية، ويتم دفعها إلى التعبير عن نفسها، عبر طرق ملتوية، وعبر التقية، بإخفائها عبر ادّعاء هوية على غير حقيقتها، ما يحوّلها إلى حالة انفجارية، وبالتالي إلى هوياتٍ قاتلة.

في الأوضاع العادية تتغيّر الهوية ببطء، لكنها في الصراعات العنيفة، والتي تطول، تقع بين الانتكاسة والتحطّم، فالهوية الجامعة التي تدّعي الدولة أنها تمثل كل مواطنيها من دون تمييز، سرعان ما تنفجر في صراع دموي، بين المكونات الاجتماعية ذاتها، حيث تُطاح قشرة الهوية الجامعة منذ اللحظة الأولى التي تستخدم فيها الدولة أدوات القمع ضد مواطنيها المختلفين معها، والذين يطالبون بحقوقهم في مواجهة مصادرتها من الدولة.

أكتب هذا المقال، وفي ذهني النموذج السوري من الصراع الدموي، فكيف يمكن النظر إلى الهوية السورية الجامعة، والهويات الفرعية المكوّنة للمجتمع السوري (ويمكن القول اليوم للمجتمعات السورية)؟ حالة الهوية "الوطنية" الجامعة، وحالة الهويات الفرعية، لم تعد قائمة، فالهويات التي كانت موجودة مع بدء الاحتجاجات السورية، لم تعد موجودة اليوم. ولا يمكن فصل مسألة الهوية الشخصية عن السياسة، ولا عن العمل ومستقبله، وبالتالي، عن السياسات العامة والأسرة والسياسات التعليمية والصحية والاجتماعية .. كما تتلازم الهوية الشخصية مع المسار المهني مع معنى النشاط طوال الحياة، مع فرص التأهيل والتقدّم والتوصل إلى نشاطات مؤهلة وقناعات والتزامات سياسية، وتطوّرها طوال الحياة. هذا البناء الهوياتي هو في الآن ذاته مسألة خاصة، ومسألة عامة، وبالتالي، مسألة سياسية بامتياز. كل هذا تحطّم في سورية، وإذا كانت فعالية الهوية تقع في هذا الإطار، فإن ما جرى في سورية لم يقتصر على التأثيرات على الهويات الفرعية للكتل الاجتماعية السورية، فلا يمكن للهويات الفرعية أن تنجو، عند تحطيم المجتمع، فمع هذا التحطيم، لم يتم التأثير على الهويات الفردية الجماعية، بل تم تحطيم أساسها المكوّن، باقتلاع كتل هائلة من التجمّعات البشرية التي تحوّلت إلى لاجئين داخلياً وخارجياً.

حاول النظام تطويع السكان، والاستمرار في حكمهم من خلال التلاعب بهويتهم، وعندما فشل في تطويع السوريين، كان خياره قتل الناس، وتحطيم تجمعاتهم وهويتهم التي لم يستطع تطويعها كما أراد

قبل الصدام، تلاعب النظام في سورية بالهويات الفرعية، وتلاعب بالمكونات الطائفية، بدءاً من الطائفة العلوية التي صادرها واستخدمها في الصراع الدموي في مواجهة الكتل المجتمعية الأخرى، مروراً بالطوائف الصغيرة التي أخافها من الأغلبية السنّية، وصولاً إلى الطائفة السنّية التي اخترقها بالمعنى المخابراتي للكلمة. بالطبع، هذا لا يعني أن الصراع في سورية صراع هويات، بل هو صراع سياسي بامتياز، ولأهداف سياسية واضحة التمسك بالسلطة التي من أجلها تم تحطيم التجمّعات البشرية المعارضة وتجريفها المكاني، واعتمدت سياسة الأرض المحروقة بوحشية، حيث استهدف النظام شعبه بكل وسائل القمع العسكرية، وخاض حربه ضد شعبه، محطّماً تجمّعاته، بوصفها بيئات حضانة للمعارضة، وبالتالي، بتجريفها يتم تجريف المعارضة. لقد حاول النظام تطويع السكان، والاستمرار في حكمهم من خلال التلاعب بهويتهم، وعندما فشل في تطويع السوريين، ولأنه لا يملك إمكانية الحوار مع المحتجّين، كان خياره قتل الناس، وتحطيم تجمعاتهم، وبالتالي تحطيم هويتهم التي لم يستطع تطويعها كما أراد.

إذا كان من الصحيح أن النظام في سورية قد حطّم مجتمعات وهوية التجمّعات البشرية التي قمعها وجرفها بقسوة، فإنه، في الوقت نفسه، حطّم هوية النظام ذاته وهوية مؤيديه أيضاً، فالصيغة السياسية والهوياتية التي كانت قائمةً في سورية قبل انطلاق الاحتجاجات، لم تعد قائمة، ولم يعد من الممكن استعادتها، فالتحطّم الهوياتي مثل التحطّم الاجتماعي يحتاج إعادة بناء، بما في ذلك الهوية الشخصية، فليس هناك هوية للأنا من دون هوية لنحن.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.