تحديث القبّة الحديدية الإسرائيلية والبيئة الأميركية المتحرّكة
صوّت مجلس النوّاب الأميركي، بأغلبية ساحقة، لمصلحة تشريع يقدِّم مليار دولار لإسرائيل؛ من أجل تحديث منظومة القبّة الحديدية للدفاع الصاروخي، وذلك بعد يومين فقط، من رفع التمويل من مشروع قانون إنفاق أوسع، بعد ضغوط مارسها عليهم نوّاب من الجناح اليساري للحزب، رفضوا الربط في نصّ واحد بين القبّة الحديدية وتمويل حكومتهم. وكان اعتراض بعضهم بسبب سقوط ضحايا فلسطينيين.
قد تشير هذه الموافقة إلى العلاقات الأميركية الإسرائيلية الراسخة، وقد تعكس الدعم القويّ الدائم لإسرائيل بين الديمقراطيين والجمهوريين، على حدّ سواء، وتحديدًا، في المجال الدفاعي والأمني. ولكن في خلفيّات الصورة ما قد يشير إلى بداية اهتزاز في صورة دولة الاحتلال، أميركيًّا. إذ طفت، على السطح، في السنوات والأشهر الأخيرة، نقاط اختلاف ليست هيّنة بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، لعلّ من أهمّها موافقة الأخيرة على مشروع توسيع الصين ميناء حيفا. (وقبل ذلك كان الاختلاف بشأن طريقة التعامل مع خطر المشروع النووي الإيراني)، فقد قالت مصادر أمنية إسرائيلية، بداية سبتمبر/ أيلول الجاري، إنّ بناء الصين الرصيف الاستراتيجي في ميناء حيفا، وتشغيله بأيدي شركة مسجّلة في إسرائيل، ومملوكة للشركة الصينية، أصبح حقيقة واقعة.
%34 من اليهود الأميركيين يرون أن معاملة إسرائيل الفلسطينيين مماثلة للعنصرية في الولايات المتحدة
حدث هذا، بعد أن حذّرت لجنة القوّات المسلّحة، في مجلس الشيوخ الأميركي، في شهر يونيو/ حزيران، 2019، إسرائيل من تأجير ميناء حيفا (نقطة رسوّ للأسطول الأميركي السادس) إلى الصين. وأفادت وسائل إعلام، وقتها، بأنّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أنّ تعزيز تل أبيب علاقاتها التجارية مع بكين سيعود بالضرر على التعاون الأمني بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ولا ينبع رفض واشنطن من مخاوفها الأمنية، فقط، ولكن لأن هذا المشروع يندرج ضمن "مبادرة الحزام والطريق" الصينية التي تشير إلى الطموح الصيني في اكتساب نفوذ أكبر في الشرق الأوسط الذي يُعَدُّ من أكثر المناطق أهمية في العالم.
وفي فبراير/ شباط الفائت، نقلت صحيفة هآرتس العبرية عن تقرير صادر عن "المعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي" (JINSA)، أنه "إذا بقيت الاستثمارات الصينية في إسرائيل بدون معالجة، فإنّ هذا الأمر يمكن أن يعيق الشراكة الإستراتيجية، ويشكِّل خطرًا على أمن إسرائيل الاقتصادي". وكانت الاعتراضات الأميركية على تعاملات إسرائيلية مع الصين سُبِقت بإيقاف واشنطن صفقتين لبيع منظومات عسكرية إسرائيلية إلى الصين، تحتويان على تكنولوجيا أميركية.
وعزّز تراجُع الولايات المتحدة عالميًّا، أمام صعود الصين، واضطرارها إلى التخفيف من حجم انخراطها العسكري في أزمات المنطقة العربية والإقليمية، كما ظهر في جملة انسحاباتها من العراق والصومال، ثم أخيرًا من أفغانستان، من تخوّف دولة الاحتلال، ليس لأنها تستظلّ بالهيمنة الأميركية، فقط، ولكن لأن لذلك آثارًا غير مباشرة متوقَّعة، لمصلحة حركات المقاومة، وتآكلًا لفكرة الاحتلال، خصوصًا حين يكون احتلالًا دائميًّا، كما هو شأن احتلالها فلسطين وأراضيَ عربيةً أخرى.
وظهرت في الولايات المتحدة أصداءٌ لافتة للممارسات الاحتلالية في الشارع الأميركي، كما شهدنا في المظاهرات الضخمة، في عدّة مدنٍ أميركية، أبرزُها العاصمة واشنطن ونيويورك؛ احتجاجًا على الاعتداءات الإسرائيلية في غزة والقدس. ولم يقتصر تأييد القضية الفلسطينية على أوساط شعبية وشبابية، فقد كشف استطلاع للرأي أنّ ثلثي الخبراء الأميركيين في شؤون الشرق الأوسط، يؤكِّدون أن إسرائيل هي فعلًا "دولة فصل عنصري". وحسب نتائج الاستطلاع الذي أعلنت نتائجه، 22 سبتمبر/ أيلول الجاري، ضمن مبادرة مقياس الشرق الأوسط للمختصين، وهو مشروع مشترك بين جامعة ميريلاند وكلية العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، يعتقد 72% أنَّ "اتفاقية أبرهام التي وُقِّعت بين إسرائيل ودول عربية، برعاية الولايات المتحدة، كان لها تأثير سلبيٌّ على آفاق السلام في المنطقة" وهذا يعني فشل الدعاية، وخيبة المساعي التي حاولت التغطية بتلك الاتفاقية عن استحقاقات دولة الاحتلال تجاه القضية الفلسطينية.
تبقى مواقف تقدُّميِّي الحزب الديمقراطي المعارضة والمنتقدة للاحتلال هامشية، كما أنَّ العقبات التي تعترض الدعم الأميركي لإسرائيل قد تكون عابرة
وقبل ذلك، في يوليو/ تموز الفائت، أظهرت دراسة مَسْحيَّة، أعدَّها معهد الانتخابات اليهودي في الولايات المتحدة، أنَّ 34% من اليهود الأميركيين يرون أن معاملة إسرائيل الفلسطينيين مماثلة للعنصرية في الولايات المتحدة، وأن 25% منهم اتفق على أن إسرائيل دولة فصل عنصري، فيما أكَّد 22% أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. يحدث هذا على الرغم من جهود الجماعات المؤيِّدة لإسرائيل، وتكريسها المساواة بين انتقاد سلوك دولة الاحتلال واللاساميَّة. هذا يدلّ على أنَّ تلك المرتكزات التي تحاول دولة الاحتلال الاحتماءَ بها، والترهيب من الاقتراب منها، قد كُسِرت، والأمر مرشَّح، بعد اليوم، لمزيدٍ من الانتقاد والمساءلة لها، كأيِّ دولة، في الوقت الذي تتجه فيه إسرائيل نحو مزيدٍ من العنصرية المدعومة بسطوة أحزابها ومرجعياتها الدينية المتطرِّفة؛ سيرًا نحو دولةٍ يهوديةٍ صِرْفة، فالتطوُّرات الميدانية المتوقّع استمرارُها في فلسطين المحتلة ستوفر مزيدًا من الفرص، لتغذية مثل تلك الاتجاهات المنتقدة دولة الاحتلال.
وفي هذا السياق، نقلت قناة التلفزة الإسرائيلية الرسمية، كان، عن مصادر عسكرية، قولها إنّ هناك مخاوف جِدِّية من أن تؤدِّي الخلافات داخل الحزب الديمقراطي إلى عرقلة حصول إسرائيل على دعم عسكري، وإضعاف فرص التوصُّل إلى صفقات سلاح مع الولايات المتحدة مستقبلًا. وحذَّرت المصادر من أنّ إدارة الرئيس جو بايدن يمكن أن تعيد النظر في المساعدات وصفقات السلاح مع إسرائيل؛ خوفًا من ردّة فعل قطاعات داخل الحزب الديمقراطي، مشيرة إلى أنّ الاعتراض على تمرير دعم لسلاح دفاعي، مثل منظومة القبة الحديدية، يؤشِّر على إمكانية أن يواجَه الدعم المخصَّص للأسلحة الهجومية بمعارضة أكبر.
الاعتراضات الأميركية على تعامُلات إسرائيلية مع الصين سُبِقت بإيقاف واشنطن صفقتين لبيع منظومات عسكرية إسرائيلية إلى الصين
نظرًا إلى وجود "الشراكة القوية" و"الاستراتيجية" بين أميركا وإسرائيل، وخصوصًا في الجانب الأمني والعسكري، فإن مواقف تقدُّميِّي الحزب الديمقراطي المعارضة والمنتقدة للاحتلال يمكن أن تُصوَّر أنها هامشية، وأنَّ العقبات التي تعترض الدعم الأميركي لإسرائيل قد تكون عابرة. لكن مجرَّد تصاعُد تلك المواقف إلى هذا المستوى الحسّاس، في الشأن الدفاعي لدولة الاحتلال، لا يخلو من دلالاتٍ نحو تآكُل تلك الأسوار الحصينة، أميركيًّا، المانعة من تعريض إسرائيل للنقد والمحاسبة، فبالمقارنة مع نتائج استطلاع مشابه لاستطلاع الخبراء الأميركيين المختصِّين في شؤون الشرق الأوسط، أجري في شهر فبراير/ شباط المنصرم، زادت نسبة المختصِّين الذين يصفون الوضع الحالي بأنه "واقع دولة واحدة أقرب إلى الفصل العنصري" بشكل أسرع من 59% إلى 65% في الاستطلاع الذي أعلنت نتائجه أخيرا.
من شأن هذا كله أن يمنع من إطلاق يد قادة الاحتلال في سياساتٍ أُحادية، ومستفردة بالفلسطينيين، وقد ظهر شيءٌ من ذلك في المواجهة العسكرية أخيرا بين فصائل المقاومة في غزة ودولة الاحتلال، حيث اضطرّت الأخيرة لإنهاء الحرب، قبل أن يُحرِز قادتُها مكاسب ملموسة، يمكن الاعتدادُ بها، وعزَّز ذلك من الشعور بالإخفاق عن ردع غزة، إن لم نقل إنه عزَّز من اليأس من فرص الخيار العسكري، تجاه التعاطي مع المقاومة في القطاع، ومستقبل هذا التهديد. وهذا له انعكاسٌ أكيد على مجمل القضية الفلسطينية ومكوِّناتها الجوهرية، كالقدس، في المسجد الأقصى، والمقدَّسات الدينية، وفي مسائل التهويد، والتطهير العِرْقي الذي تتدرّج فيه دولة الاحتلال هناك، وفي عموم فلسطين. كما بدا في تعامُل دولة الاحتلال الحذِر إزاء تداعيات الإخلاء والاستيلاء على منازل في حي الشيخ جرّاح، بعد أن نجح الفلسطينيون، حينها، في جعلها قضية إنسانية عادلة تتصدّر أخبار العالم.