تجنيد سوريِّين مع روسيا مَعِيب وخطير

13 مارس 2022
+ الخط -

بعد أنْ أسهمت روسيا إسهاماً كبيراً في تدمير سورية، وفي شلّ الحياة الطبيعية فيها، وبعد انتقاصها من سيادة الدولة انتقاصاً مُخِلّاً، ها هي تمعن في طمس هُويَّتها، بتجنيد مقاتلين معها في حربها على أوكرانيا، بعد أنْ جنّدت عدداً منهم لصالحها في ليبيا. ففي أحدث المواقف الروسية الرسمية، وافق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على اقتراح وزير دفاعه، سيرغي شويغو، الاستعانة بـ"المتطوعين" من الشرق الأوسط للمشاركة، في أعمال القتال في أوكرانيا. كما زعم شويغو تلقِّيه "كميَّات ضخمة من الطلبات" من مختلف أنواع المتطوِّعين، من دول مختلفة؛ من أجل التطوع للقتال في لوغانسك ودونيتسك. وادَّعى تلقِّي طلباتٍ كثيرة، من بلدان الشرق الأوسط للقتال، إذ وصل عددها، بحسبه، إلى أكثر من 16 ألفاً.

ومن قبل، أفادت مصادرُ متنوّعة برغبة روسيا باستقدام متطوعين من سورية، إذ أوردت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية قول مسؤول دفاعيٍّ أميركيٍّ كبير إنّه لم يتَّضح عدد السوريين الذين يسعى بوتين إلى تجنيدهم، لكنّه قال: "نعتقد أنّه بحاجة إلى الاعتماد على مقاتلين أجانب". وذكرت الصحيفة أنّه جرى الإبلاغ عن جهود التجنيد الروسية، أول مرَّة، من موقع إخباري سوري، هو "دير الزور 24" الذي قال: "إنّ موسكو تبحث عن متطوِّعين للعمل حرَّاساً بعقودٍ، مُدَّتها ستَّة أشهر، مقابل ما بين 200 دولار و300 دولار، شهريًاً. وذكر التقرير نفسه أنّ شركة المرتزقة الروسية "فاغنر" كانت تجهِّز عناصرها السوريِّين الذين خدموا في الحرب الليبية إلى جانب الجنرال خليفة حفتر للانتقال إلى أوكرانيا. كما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أنَّ بعض المرتزقة السوريِّين موجودون، بالفعل، في روسيا، ومستعدُّون لدخول القتال في أوكرانيا. كما أفادت مصادر، من داخل سورية، بأنَّ شخصياتٍ سوريَّة، وقادة مليشيات محليَّة مسانِدة لقوَّات النظام، وتربطهم علاقات وثيقة مع روسيا، بدأوا حملة ترويج لتجنيد الشُبَّان السوريِّين في مناطق النظام السوري، للقتال في أوكرانيا.

ولا يخفى أنّ هذا مؤشِّر فعليٌّ خطير يَشي بتصوِّر روسيٍّ سلبيٍّ عن سورية؛ أنّها لا تزيد عن كونها ذخراً، بشريّاً، بعد أنْ حوّلتها إلى مرتكز استراتيجي، فوق ما ينطوي عليه هذا التجنيد من امتهانٍ للإنسان السوري، بمقايضة حياته (في حربٍ لا تعنيه) بالمال، علماً بأنَّ ثمّة ممَّن قاتلوا مع روسيا في ليبيا أعلنوا أنّهم لا يثقون بروسيا، بعد أن أخلفت وعودَها معهم، فيما الإقبالُ على مكاتب التجنيد ضعيفٌ جدّاً.

الانخراط الرسمي السوري في الحرب يؤشّر إلى مدى الاستلاب الذي يعاني منه نظام بشّار الأسد، ومقادير العجز، بالانزلاق في لعبة بوتين الدولية

وتالياً، يؤشِّر هذا الانخراطُ الرسميُّ السوريُّ في حروبِ روسيا، وفي هذه الحرب الجديدة، التي قد تدشِّن توسُّعَ الطموح الروسي نحو الدول التي استقلّتْ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وأضحتْ، في نظر بوتين الطامح في استعادة أمجاد بلاده الإمبراطورية، مأمولةً، يؤشّر هذا إلى مدى الاستلاب الذي يعاني منه نظام بشّار الأسد، ومقادير العجز، بالانزلاق في لعبة بوتين الدولية، من دون أن يتفطَّن إلى متطلَّبات بلاده من البناء؛ من دون أن ينجح في استعادة سورية، وفي استعادة شعبها، وكأنّه يشارك في تعليق مصيرها، ويتعايش مع جعْلها مجرَّدَ أداة، وجسر، إلى ما بعدها.

والسؤال المُحدِّد هنا: هل ثمَّة شبهة في صوابية الالتحاق بروسيا في غزوها أوكرانيا؟ وهل ثمَّة مصلحةٌ، نحن قادرون على تحصيلها، من إقحامنا في هذه المعمعة الروسية الأوكرانية الأوروبية الأميركية؟ وفق الأعراف الدولية، غزو دولةٍ مستقلة هو عدوانٌ عليها، وعلى بلادها وشعبها. وممّا يضعف دعاوَى بوتين، عن سيطرة حفنة من النازيِّين، أو الدُّمَى على مصير الشعب الأوكراني، وعلى قراره، ما نشهده من مقاومة وطنية ليست هيّنة، وما يحفُّها من روحٍ قوميةٍ زادَ في استنهاضها تهديداتُ الاحتلال الروسي.

ومعلوم، وملحوظ، هذا الاحتدام في الصراعات المصلحية، في عالم يعاد تشكيلُه، على قاعدة فرْض النفوذ، بأدوات القوة؛ العسكرية والاقتصادية والإعلامية، وغيرها. وفي هذا المناخ، تستميت الدول، وبالذات الفاعلة، والطامحة، بالإضافة إلى الدول الخائفة على مصيرها، واستقلالها، في تثبيت أوضاعٍ دولية تخدمها، بالدرجة الأولى، ومن المصلحة الوطنية تجنُّب الوقوع تحت أرجُل هؤلاء المتحاربين، وفي ملاعبهم الخاصة.

مؤشِّر فعليٌّ خطير يَشي بتصوِّر روسيٍّ سلبيٍّ عن سورية؛ أنّها لا تزيد عن كونها ذخراً بشريّاً

وغنيٌّ عن البيان أنَّنا لا نملك من أدوات المساومة الكثير، خصوصاً، في بلدٍ كسورية، يشعر نظامُه بالامتنان الباهظ، لروسيا ورئيسها المَوْتُور. وقصارى الأمر أنْ يتخلّى النظامُ الحاكم في دمشق عن مسؤولياته، ليترك الشعبَ السوريَّ، وكأنّه انحلَّ إلى مجرّد أفرادٍ يُستلَبُون في مزادات الصراع الدولي. ومقاربةً لهذه الحالة، يقرِّر الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانط، الذي أسَّس في كتابه "مشروع للسلام الدائم" لـ "جامعة أمم" تضمن تحقيق السلام العالمي، وتحُول دون أسباب الحروب، أنّه "يحظر على كلِّ دولة أنْ تتدخَّل بالقوة في نظام دولة أخرى، أو في حكومتها". وبعد أن يقول: "إنَّ أيَّ دولة مستقلَّة (صغيرة أو كبيرة) لا يجوز أنْ تملكها دولةٌ أخرى، بطريق الميراث، أو التبادُل، أو الشراء، أو الهبة"، يضيف: "ومِن هذا القبيل أيضاً ما تعمد إليه بعض الدول من تأجير جيوشها لدولة أخرى لمقاتلة عدوٍّ ليس عدوًّا للطرفين: فإنَّ مَنْ يفعل هذا يستعمل "الأشخاص" وكأنّهم "أشياء" يسخِّرها في ما يشاء". "أضف إلى هذا أنَّ استئجار الناس؛ لكي يقاتلوا، أو يقتلوا، معناه، في ما يبدو، أننا نعاملهم معاملة الآلات المحضة، أو الأدوات في يد غيرهم (الدولة): وهو أمر لا يتفق مع حقوق الإنسانية في أشخاصنا".

هذا، ومِن أهمِّ دوافع القتال إيمانُ المقاتل بالمعركة، إيماناً أخلاقيّاً، أو غيره، وإنَّ ترويج فضلٍ في أعناق السوريِّين، بالذات، لروسيا، هو قلبٌ مَعيب للحقائق، فأيُّ فضلٍ لروسيا/ بوتين، على سورية، وشعبها، وهو قد أفضى إلى دمارها الراهن، ولا فضلَ حقيقيّاً له، حتى على نظام الأسد، اللهمَّ إلا إذا اعتبر أنصارُه أنَّ مجرَّد بقاء الأسد، في الحكم، مع تفريغه من السيادة، هو فضلٌ كبير. وأما الحفاظ على وَحْدة سورية، فأيُّ وحدة لسورية وأراضيها، بعد اقتسامها الفعلي بين نفوذ الدول الكبرى والدول الإقليمية، ومع خروج مناطق كبيرة منها عن سيطرة الدولة!

ومع أنَّ سوريِّين قاتلوا لصالح روسيا في ليبيا، فإنَّ هذا الانخراط في الصراع القائم في أوكرانيا يغلُب أن يكون مختلفًا، إذ يبدو لبوتين حربًا مصيرية، إلا أنْ يتوصَّل إلى حلٍّ وسط، لا تبدو له علاماتٌ قريبة، فالخشية اليوم، أكبر، يزيدُها استشعارُ موسكو توسُّع الصراع، وتجاوزه الحرب الخاصة التي بنى عليها بوتين ومقرَّبوه تقديراتهم.