تجديد للدين أم دين جديد؟

20 سبتمبر 2021

(محمود صبري)

+ الخط -

ليست جديدةً المطالبات بتجديد المفاهيم الدينية وتحديث الممارسات الفقهية لتواكب مستجدّات العصر والقضايا المستحدثة في المجتمع، إلا أن الحديث عن التطوير والتحديث في الدين امتد إلى نطاقات أوسع وأخطر بمراحل من الخطاب، فقد صار مطلوباً من المصريين مراجعة إسلامهم من عدة زوايا، أهمها على الإطلاق ثنائية الجبر والاختيار، أي مدى الاقتناع بتلك الديانة والإيمان بها، وبتعاليمها بالاختيار العمدي والإرادة الحرّة لكل شخص.
مبدئياً، سيرحب أي عاقلٍ بالدعوة إلى تفعيل الإرادة الذاتية وإعمال المبرّرات العقلية في اختيار العقيدة. خصوصاً أن سجالاتٍ كثيرة حول مصير أصحاب الديانات الأخرى (في النار أم الجنة) تنطلق من أن الأغيار معذورون بجهل الديانات الأخرى، ولم يقرّروا بإرادتهم اختيار ديانتهم، وإنما توارثوها فنشأوا عليها. لكن الأمر ليس على هذا النحو من التجريد والمثالية، فلو كان المستهدف بالدعوة معتنقو كل الديانات على قدم المساواة، لربما أمكن تفهمها، ولجاز التعاطي معها بعيداً عن التفسيرات التآمرية. لكن الحاصل أن المطالبين بالمراجعة وإعادة التفكير فيما يعتنقون هم المسلمون فقط وحصرياً.
وهنا ينبغي استدعاء إشارات وشواهد أخرى ستساعد على فهم المسألة، ولو جزئياً. من تلك الإشارات المطالبة بحذف الديانة من بطاقات الهوية في مصر، بحجّة أنها تمثل تمييزاً دينياً لا ضرورة لإدراجه. وقبل ثلاثة أعوام، خرج رأس السلطة في مصر ليطالب بمنع الطلاق الشفهي وعدم الاعتداد سوى بالطلاق الموثق رسمياً. وقبل أيام، خرج الصحافي إبراهيم عيسى ليطالب بتدريس نصوص من الإنجيل والتوراة في المقرّرات التعليمية للغة العربية، وذلك في حضور عبد الفتاح السيسي الذي كرّر في الجلسة نفسها دعوته إلى مراجعة الديانة وإعادة اختيار العقيدة، وذكّر الحضور بدعوته السابقة بشأن الطلاق الشفهي.
الواضح أن السلطة في مصر تقوم بقفزات كبيرة في محاولات إعادة تشكيل "الدين"، ومراجعة جوهره العقائدي والعباداتي. وكلما فشلت أو تعثرت محاولة، تقفز المحاولة التالية إلى مسافة أبعد. كما لو كان هناك سباقٌ مع الزمن لفرض طرحٍ ما.
حتى هنا، ستتجه أي محاولة لفهم ما يجري نحو التفسيرات التآمرية، تحديداً تجاه الإسلام الذي ينفرد بالتعرّض لتلك الأفكار والطروحات المُريبة. لكن التفسير التآمري يتراجع نسبياً أمام ما بدأ يتسرّب أخيرا عن مخطط إسرائيلي أميركي عربي، للقيام بعملية دمج للأديان السماوية الثلاثة أو صهرها. فيما يمكن اعتباره "توحيداً جديداً" ليس للآلهة، وإنما للديانات. أو كما يسميه بعضهم "دينا جديدا"، ربما يحمل اسم الدين "الإبراهيمي" نسبة إلى أبي الأنبياء إبراهيم الذي يتفق في الإيمان به المسلمون والمسيحيون واليهود. وهنا تقفز إلى الذهن الخطوات التي صاحبت حالات التطبيع المستجدة بين بعض الدول العربية وإسرائيل، فقد حملت عنوان "اتفاقات إبراهيم" على خلاف معاهدات السلام السابقة التي جاءت في صيغة اتفاقات تقليدية اسماً ومضموناً. وأساس هذا المخطط أفكار طرحت للمرة الأولى عام 1985 في ورشة عمل للجمعية الدولية لعلم النفس السياسي في واشنطن. ثم ألمح جورج بوش الابن إلى الأفكار نفسها عام 2003 بالتزامن مع غزو العراق، قبل أن تتبلور بوضوح في ورقة بحثية أصدرتها جامعة فلوريدا في يونيو/حزيران 2015.
البدء بمصر في هذا المسار الجديد منطقي، حيث الحجم السكاني الضخم والثقل الديني والروحي إسلامياً ومسيحياً، فإذا تم تفكيك القناعات الدينية لهذه الكتلة البشرية الكبيرة، سيسهل تمرير تلك الصيغة التجميعية للعقائد الثلاث ونشرها في المنطقة ككل. وإسقاط ما يتعارض من تلك العقائد مع الأخرى، والإبقاء فقط على المشتركات بينها، خصوصاً مفهوم التوحيد وقيمه وتطبيقاته. وستصبح شعوب الشرق الأوسط مطالبة باعتناق الدين الجديد، وإلا تُتهم بالإرهاب والتعصّب والعداء للسامية، بل والتنكّر لأبي الأنبياء إبراهيم.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.