تايوان... فريسة على مائدة الكبار
لا يأخذ العالم قضية الاعتراف باستقلال تايوان على محمل سياسي جادّ، فقائمة الدول التي تعترف بها لا تتجاوز 13 دولة، ليست الولايات المتحدة منها، ومعظم الدول التي تعترف بها ذات هامش سياسي ضيق جداً، وكانت جزيرة ناورو آخر من سحب اعترافه بدولة تايوان. وقد أعلنت ذلك مع بداية عام 2024، ولا يبدو أن أيّاً من الدول متحمّسة لمسألة الاعتراف، لكن أميركا، منذ بداية عهد دونالد ترامب، أظهرت اهتماماً متزايداً بها، وقدّمت إليها دعماً مالياً وعسكرياً، وأصبحت حريصة على الوجود العسكري على مقربة من الممر المائي الذي يفصل تايوان عن الصين.
يحتفظ تاريخ العلاقات بين الصين والولايات المتحدة بالإعلان الأميركي الذي صدر في عام 1979، بمناسبة تدشين دبلوماسية جديدة بين البلدين، وينص الإعلان صراحة على اعتراف الولايات المتحدة بصين واحدة عاصمتها بكين، وأن تايبيه (تايوان) جزء منها. جاء ذلك البيان بعد عقد من سياسة "البينغ بونغ" التي هندسها هنري كيسنجر للتقارب مع الصين، وتوسُّع حدّة الفرقة بين الصين والاتحاد السوفييتي في ذروة الحرب الباردة، وقد شكل ذلك التقارب اختراقاً مهماً لسياسة الولايات المتحدة التي كانت متورّطة بحروب في فيتنام وكوريا.
بعد رحيل الاتحاد السوفييتي، نمت الصين كثيراً وشكلت بديلاً أيديولوجياً، ومنافساً اقتصادياً للولايات المتحدة. ومع دخول القرن الجديد بدت الصين عملاقاً سياسياً واقتصادياً عالمياً، حاول باراك أوباما أن يقيم علاقات توازن معها، فتطوّرت التبادلات التجارية بينهما، وحافظ، في الوقت نفسه، على وجود ساخن في منطقة بحر الصين، لتواجه العلاقات ضربة قوية بعد تولي ترامب السلطة، فتوقفت الاجتماعات الدورية بين البلدين، وفُرضت رسوم جمركية على وارادت الولايات المتحدة من الصين، واستهدفت السلطات الأميركية شركات تكنولوجيا عملاقة في خضمّ مواجهة اقتصادية ذات مضمون سياسي، وتزايدَ الوجود العسكري الأميركي في بحر الصين. وكانت النقطة الأهم زيادة الاهتمام الأميركي بتايوان، وشكلت زيارة مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى لها وبيعها أسلحة ومعدّات عسكرية متطورة ذروة للخلاف.
الاهتمام الأميركي الظاهر بتايوان، بوتائره المتزايدة، مدفوع باعتبار تايوان عاملاً مهمّاً في حرب الولايات المتحدة الضمنية مع الصين، فأميركا ما زالت ملتزمة اتفاقها مع الصين، ولم تتنصّل منه، أو تعلن تخليها عنه. وكان الرئيس جو بايدن قد قال، بعد فوز لاي تشينغ تي بالرئاسة في تايوان، إن الولايات المتحدة لا تدعم استقلال الجزيرة. لكن تايوان بالنسبة إلى الولايات المتحدة أداة سياسية يمكن أن تتحوّل إلى فريسة في أية لحظة، وتلك اللحظة مرهونة بشكل العلاقات مع الصين، ولا يمكن قراءة الالتزام العسكري الأميركي تجاه الجزيرة أو محاولة حفاظها على الوضع الراهن إلا عبر العلاقات الأميركية الصينية، وهو اختزالٌ يبدو مُجحفاً بحقّ أكثر من 23 مليون نسمة لديهم نشاط بشري فعال ونظام ديمقراطي وحياة سياسية كاملة يعيشون في الجزيرة.
من الناحية الجغرافية، لا تبدو تايوان تنتمي إلى الصين. فالجزيرة تبعد عن البرّ الصيني أكثر من 150 كيلومتراً، وهي أقرب أن تكون جزءاً من أرخبيل الجزر الممتدّ من الشمال نحو الجنوب ويحوي اليابان والفيليبين وإندونيسيا، ولكن تايوان ترتبط مع الصين بروابط ثقافية وثيقة من حيث اللغة والدين. فقد شهدت تايوان موجات هجرة كثيفة من البرّ الصيني نحو الجزيرة، وهذا ما يدعو الصين إلى الاعتقاد بحقّ المطالبة بها، ولديها قناعة تامة بأن الجزيرة ستعود إليها في النهاية. ويؤكد مسؤولون صينيون من كل المستويات ذلك بشكل متكرّر، ولدى الولايات المتحدة التزام قانوني وسياسي قوي يمنعها من الاعتراف باستقلال الجزيرة. أما عن باقي الدول، فتمتلك الصين قوة تُجبر الكثير منها على تجاهل الاعتراف بتايوان. كل هذه العوامل ترشّح تايوان بقوة لتكون كرة قدم سياسية خاضعة للعلاقات الصينية الأميركية المتقلبة، وهذه العلاقات من غير المرجّح أن تستقر في القريب المنظور.