بَقُّ المطعم البلدي
إذا كان في كل أرض ما تُشانُ به/ فإن طنجةَ فيها المطعمُ البلدي
حين قرأتُ نص "المطعم البلدي" الطّريف، الذي افتتحه الشاعر المرّاكشي، محمد بن إبراهيم، بهذا البيت، في كتاب القراءة في الابتدائي، انزعجتُ للغاية، لأنني غرتُ على مدينتي التي تحضر في المقرّر المدرسي، بهذا المطعم "غير المُشرّف". وهي المرّة الوحيدة التي ذُكرت فيها، بما أن محمد شكري كان من الممنوعين على الاستشهاد في أيّ مقرر. لم تكن غيرتي تلك مدعومةً بأي برهان يفنّد مزاعم الشاعر، لأنني لم أعرف إن كان هذا المطعم قائماً، بما أنني أعرف أيّة مطاعم في المدينة آنذاك. إذ لم تكن هناك مطاعم كثيرة أصلاً. حينها كان معظم الناس يفضّلون الأكل البيتي. ما عدا السندويشات التي كان يكاد ينحصر فيها الطعام خارج البيت لطنجاوة آنذاك. إلى جانب مطاعم البيصارة التي لم يكن يُقبل عليها سوى العمال والعزّاب البسطاء.
كان أحد مطاعم البيصارة تلك في طريقي من البيت إلى المدرسة. وكانت تنبعث من بابه رائحة شهية تنتشر كالسّحر في محيط المطعم. كأن الأمر لا يتعلق بطبقٍ بسيط، بل بطعمٍ خيالي، عميق ومكثّف ولاذع. في الظهيرة، كانت الرائحة تخدّر حواسّنا، نحن الذين كنّا نخرج من المدرسة يتملكّنا الجوع والبرد، ونمرّ على المطعم في طريقنا إلى البيت. لا يمكن وصف تلك الرائحة، كم كانت طيّبة وشهية كما لم تكن أي رائحة بعدها أو قبلها. ومن الصعب البحث عن مكانٍ يحمل هذه الرائحة، أو وصفها بحيث يمكن نسخها، لأنها عالقة في ذاكرة شخص واحد. على عكس الرّوائح التي يعرفها الجميع، ويمكن تقطيرها.
نجح صنّاع العطور في استنساخ الروائح التي يحبها الناس. مثلا لمحبّي رائحة الكتب الجديدة، تم تركيب عطر أطلق عليه "شغف الورق"، يشبه المتعة الشميَّة الفريدة التي تمنحها رائحة الكتب حديثة الطبع. للرائحة هذه السّطوة، على عكس بقية ما تجلبه الحواسّ الأخرى إلى مركز الذاكرة. لأن حاسّة الشم هي الأكثر قدرة على استعادة الذكريات البشرية، بفضل اتّصال فريدٍ بين مقر الذاكرة في الدماغ ومناطق حاسّة الشم لدى البشر. إذ تُعد حاسة الشّم الأسرع اتصالًا مع الحصين، مقرّ الذاكرة، من بقية الحواس. وفسّر العلم تفوّق حاسّة الشم في الوصول إلى الذاكرة بسرعة كبيرة، بأنه مع التطور البشري، تغير مسار الرؤية والسمع واللمس في الدماغ، وهو الأمر الذي لم يحدُث مع حاسة الشم التي لم تخضع لعملية إعادة التوجيه.
كنت أعود إلى البيت حيث تعدّ أمي أطباقاً أفضل، بمراحل. لكن ما من شيءٍ يُعادل الطعم المتخيّل في ذهني لمصدر الرائحة. ولم يكن مقبولاً السؤال عن إمكانية تناول الطعام في ذلك المطعم، الذي يُقال إنه لا شك قذر مثل كل المطاعم، لا يرتاده سوى "الزوافريّة" أي العزّاب الوحيدين، وإيانا أن نفكر فيه. من يعرف أي مرض قد يلتقطه أحدنا هناك. فوعدت نفسي أنني حين أكبر وأستقلّ بنفسي، سأذهب إلى المطعم. حين حدث، لم تكن الرائحة ولا منظر المطعم يسمحان حتى بمجرّد الدخول إليه. لقد فقد مجده، لمّا قلّ عدد العمّال في ذلك الحي، ولم يعد أحدٌ يبحث عن "زلافة" من البيصارة، تتسرّب رائحتها كالسحر في أفئدة الأطفال.
للروائح أقدار لا يعرف حكمتها أحد. كما لا يعرف المرء كيف تسوقه الأيام إلى تجربة شديدة الأثر. تقول قصّة المطعم البلدي إن الشاعر محمد بن إبراهيم، الملقب بشاعر الحمراء، زار مدينة طنجة، خلال فترة الاستعمار، واضطر إلى المبيت بها. وساقته الظروف إلى فندقٍ يسمّى "المطعم البلدي"، قضى فيه ليلته التي لم ينسها. إلى درجة أنه هجاه كما يجدر بأهل مراكش المعروفين بخفة الدم. خاتما هجاءه قائلاً:
فقلتُ والبقُّ قال البقُّ ليسَ به بأسٌ/ إذا كانَ بقَ المطعم البلدي
فقلت هذي البراغِيث التي كثُرت/ ما بالُها كَبُرَت في المطعم البلدي
فهزَّني كصَديقٍ لي يُداعِبُني/ وقالَ تِلكَ جُيوشُ المطعم البلدي.
كم من تجربة نسمع بها كما أخبرنا الشاعر المراكشي عن بقّ "المطعم البلدي"، ولا ندرك حقيقتها لأننا جئنا متأخّرين. وبعد أن جئنا فاتنا أن نمسك الريموت كونترول، ثم، لم يعد ذلك كله مهمّا.