بين قيس سعيّد والبرهان

24 فبراير 2022
+ الخط -

(1)

كلّما سمعت الرئيس التونسي، قيس سعيّد، وهو خطيب مفوّه، يُحدّث وزراءه أو يعلن قراراته، إلا وقفزت صورة جنرال السودان عبد الفتاح البرهان إلى الذهن، وإنْ كان الأخير أقل اقتداراً في الخطابة. ما أشبه الرّجلين في اعتمادهما مسالك النظم الرئاسية، مقوّماتها وهياكلها، خياراً لحكم بلديهما في تونس وفي السودان. لم يتلّمس أيٌّ منهما رغبات شعبيهما عبر مشورة ديمقراطية، يكون فيها الخيار للشعب، لا لقائدٍ مستبدٍّ ينفرد بحكم البلاد، ويقرّر نيابة عنه كيف تكون إدارته. أنظمة حكم مثل التي في السودان وتونس، نرى فيها رأس الدولة مُمسكاً ملفاتها السيادية كما بملفاتها التنفيذية، يعيّن ذلك الرئيس مساعديه ومستشاريه ووزراءه، آمراً ناهياً، وإن ترك للسلطة التشريعية بعض صلاحياتها، فهي لا تخرُج، في معظم الأحوال، عن طاعته، أما السلطات القضائية فهي تحت يديه.

(2)

يُحمد لقيس سعيّد أنه اعتلى كرسي الحكم عبر انتخابات عامّة، ووفق دستور للدولة التونسية، الذي ظلّ يعتمد نظاماً رئاسياً راسخاً عقوداً طويلة، منذ أيّام "سي الحبيب"، راعي استقلال تونس، وحتى عهد الهارب بن علي الذي لاحقه الخزي حتى وافته المنية في عام 2019. الرئيس قيس سعيّد هو رئيس جمهورية منتخب بموجب ذلك الدستور "البورقيبي" الراسخ، والذي يمنح رئيس الدولة صلاحياتٍ رئاسية واسعة، وقد استعملها الرجل حين تفاقمت أزمة الحكم في تونس بينه وبين رئيس برلمان بلاده، فأعلن في يوليو/ تموز حالة الطوارئ، وأعقبها بتجميد الجهاز التشريعي للدولة وحل الحكومة، ثم اتجه، في غياب محكمة دستورية، إلى توطيد نظام رئاسي كامل الدّسم في تونس. إمساك الرجل بالسلطات كافة عكس نوايا لا تخفى لتحويل تونس إلى نظام حكم شمولي واضح المعالم. هكذا توالت الأحداث، وتراجعت معها ثورة الياسمين أو كادت، لتنطوي صفحاتها وتتراجع تجربة ذلك الجيل الذي هرم إلى غيابة التاريخ. لكأنّ ثورات ما يسمّى الرّبيع العربي مكتوب عليها أن تصبح مسخاً شائهاً من أنظمة هشّة مضطربة، أو أن تتحوّل إلى شمولية طاغية. لك أن تنظر إلى حال ثورات ذلك الرّبيع في مصر وفي ليبيا والجزائر وتونس، لترى انكسارات ثوراته ماثلة للعيان.

(3)

أمّا عن ثورة ديسمبر 2018 في السودان وثورة شبابه، فقد اضطربتْ أحوالها، وانسدتْ آفاقها، ويصارع شبابها حالياً للخروج من تلك المصائر التي آلت إليها بعض ثورات الربيع العربي. تُرى، هل يكتب لها خروج آمن من تلك المصائر؟

يوماً بعد يوم، تكشفت نيات جنرالات السودان، في تعمّدهم تصفية ثورة شباب السودان

لقد قبلتْ الثورة السودانية مشاركة جنرالات السودان الذين انحازوا لها، وشاركوا في إسقاط نظام عمر البشير، وذلك ما أتاح لهم المشاركة في قيادة مسيرة التغيير، وفق وثيقة دستورية مؤقتة لإدارة فترة انتقالية لا تتجاوز أعواماً ثلاثة. وعلى الرغم من دورهم الحاسم في الانحياز للثائرين، إلا أن نياتهم لم تكن صادقة كلّ الصدق. ولم يتصوّر عاقلٌ أنّ ثمّة ما قد يدعو أولئك الجنرالات إلى تسيّد المشهد السياسي في السودان، والانقلاب عليه بما يشبه التآمر الفاضح، بعد الانقلاب العسكري الذي قادوه في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ونجاحهم في إجبار رئيس وزراء الحكومة المدنية، عبد الله حمدوك، على الاستقالة، عمدوا إلى تنفيذ خطتهم التي لم تعد خافية لإعادة نظام البشير الذي أسقطه السودانيون بعد ثورتهم في ديسمبر/ كانون الأول 2018. هكذا عمل الجنرالات على إزاحة الحكومة المدنية، وفضّوا الشراكة مع المدنيين بجرّة قلم، غير آبهين باحتجاجات السودانيين الثائرين المطالبين بمدنية الثورة. بدت حقيقة نوايا الجنرالات واضحة، تمثلت في جنوحهم إلى إعادة جميع عناصر نظام الإنقاذ المباد ممّن أبعدتهم الثورة إلى قواعدهم السابقة في جميع الوزارات والهيئات الحكومية وشبه الحكومية. وقد صرّح ناطق باسم قوى الحرية والتغيير، وقيادي كبير في حزب الأمة السوداني، أنه لم يبقَ للجنرالات، بعد إعادة جميع عناصر النظام السابق، إلا إعلان عودة البشير ونظامه. لم يقف الأمر عند ذلك، بل تعمّدت القوات الأمنية التي يقودها الجنرالات التصدّي للتظاهرات المنادية بمدنية الفترة الانتقالية في السودان، بقسوة بالغة وبعنفٍ مفرط، أزهقت خلاله أرواح ما يبلغ الثمانين شهيداً بالرّصاص الحيّ، غير من أصيبوا ويعدّون بالمئات.

هكذا ويوماً بعد يوم، تكشفت نيات جنرالات السودان، في تعمّدهم تصفية ثورة شباب السودان، ودفعهم البلاد إلى المصائر ذاتها التي حاقتْ بثورات ما يسمّى الربيع العربي، تلك التي كتب عليها أن تنتهي إلى أنظمة هشّة مضطربة أو إلى شمولية طاغية.

(4)

ذلك مشهد محزن من دون شك... لكأنّ ما فعله الرئيس قيس سعيّد في تونس، بانقلابه "المدني" منذ يوليو/ تموز 2021، وإعلانه حالة الطوارئ، وتجميد البرلمان، وحلّ الحكومة وتشكيلها بقرار منه، ثمّ أخيراً إعلانه، في 6 فبراير/ شباط الحالي 2022، السّلطة القضائية، شكّلت مشهداً ومرجعية تنزّلتْ من تونس وطابقت نوايا جنرالات السودان. لم يتحمّس هؤلاء في السير في ذلك الطريق على وعورته، إلا بدعمٍ غير خافٍ من دول عربية في المنطقة، لم تجد حرجاً في التعاون معهم، وبعضهم قد صار مشاركاً بفعالية مع قوات التحالف في حرب اليمن. لن يكون سهلاً عليهم التعامل مع قيادات مدنية في السودان إلا مع أولئك الجنرالات. ها هم الآن يسارعون في القيام بإجراءات منسوخة كربونياً، وتشابه أفعال الرئيس التونسي، قيس سعيّد، بل هم ماضون إلى تنفيذ ما هو أبعد منها.

يسارع جنرالات السودان إلى إجراءات منسوخة كربونياً، وتشابه أفعال سعيّد، بل ماضون إلى تنفيذ ما هو أبعد منها

إذا أقدم رئيس مدنيٌّ متخصّص في القانون الدستوري على القيام بانقلابه المدني في تونس، وسيطر على جميع السلطات فيها، فما أسهل لجنرالات السودان من تنفيذ انقلابٍ عسكريٍّ كامل الدسم والملامح، وما من وثائق دستورية ملزمة يمكن أن تحول دون ذلك. ولعلّ المثير للعجب أن ترى أستاذاً جامعياً، جاء بشرعية انتخابية لتوطيد حكم ديمقراطي رشيد، يجنح لينعطف ببلاده إلى حوافّ الأنظمة الشمولية الاستبدادية، فيما الأكثر إثارة للعجب أنْ يدّعي جنرالاتٌ قاموا بانقلابٍ عسكري في السّودان أنهم عازمون على إجراء انتخابات عامة، تعيد الحريات وتنشئ حكماً ديمقراطياً في بلادهم.

(5)

يبقى على التونسيين تصديق مثل تلك المزاعم من رئيسهم أستاذ القانون الدستوري، كما على السّودانيين أن يصدّقوا دعاوى جنرالاتهم الذين سيقودونهم إلى إنشاء نظامٍ يحترم الحريات والتعدّدية والديمقراطية والعدالة. أما المجتمع الدولي ومنظماته، وقواه الكبرى والمتوسطة والصغرى، فهم جميعاً على انشغال بأجنداتهم ومصالحهم، إذ الكل في ذلك العالم على وعي كامل، وعيونه مفتوحة لتحقيق تلك المصالح والأجندات، وما همّتهم مشاغل السودانيين في شيء.

في ذلك الإقليم الذي عاشتْ بعض بلدانه مواسم الربيع العربي المعطوب، سيظن طغاته وحكامه، كباراً وصغاراً، أنّ عيون شعوبهم معصوبة، وشبابهم غارقٌ في رومانسية سياسية حالمة، لكنهم ينسون منطق التاريخ: أنّ بعد الغيبوبة إفاقة.