بين حماية السلطة وحماية الشعب الفلسطيني
برز موضوع حماية السلطة الفلسطينية ليُطرح من جديد بوصفه البند الرئيسي في المداولات الجارية إقليمياً ودولياً بشأن القضية الفلسطينية والتطورات الأخيرة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. اهتمّ الرئيس الأميركي، جو بايدن، بهذه القضية في زيارته المنطقة في يوليو/ تموز الماضي، وكان الأمر حاضراً كذلك في الزيارات المتتالية لكبار مسؤولي إدارته، ومنهم وزيرا الخارجية والدفاع، ورئيس هيئة الأركان المشتركة ومستشار الأمن القومي، ورئيس المخابرات المركزية. كذلك حظي الأمر باهتمام عواصم إقليمية ودولية (وبخاصة من أجهزة استخباراتها). الغريب أنّ هذا الاهتمام بحماية السلطة وتمكينها والحيلولة من دون انهيارها يُناقَش بمعزلٍ عن المطلب الذي طالما تردّد خلال عقود الصراع الطويلة، وهو حماية الشعب الفلسطيني من بطش الاحتلال وسياساته القمعية، ولا سيما مع ارتفاع معدّل ارتكاب المجازر الصغيرة المتفرّقة التي يقترفها جيش الاحتلال، والإعدامات الميدانية التي يتناوب على تنفيذها جيش الاحتلال وشرطته ومليشيات المستوطنين، بهدف حسم الصراع من مدخل إخضاع الفلسطينيين وفرض الحل النهائي عليهم، فمن الذي يهدّد السلطة الفلسطينية إذاً، ويدفع إلى انهيارها؟ وما علاقة حمايتها كمؤسسة وأجهزة وأدوار بحماية الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال؟
تجتمع آثار الاعتداءات الإسرائيلية اليومية مع عوامل الأداء الذاتي السلبي للسلطة، وانسداد الآفاق أمام التسوية، لتنتج وضعاً بائساً تبدو فيه السلطة الفلسطينية عاجزةً تماماً عن حماية شعبها، وعن الوفاء بالتزاماتها الرئيسية، بما في ذلك دفع رواتب الموظفين، والاستجابة لمطالب النقابات والاتحادات الشعبية التي تتواصل احتجاجاتها وإضراباتها إلى درجة شلّ مرافق كاملة، كالتعليم والصحة، فضلاً عن أزمات تسيير شؤون الحياة اليومية من معاملات إدارية وقضائية وتنظيم الأمور المعيشية والخدمات والمرور وتوفير الأمن الشخصي وسواها من الواجبات المنوطة بالسلطة.
لم تعد الاعتداءات الإسرائيلية اليومية مجرّد حوادث أمنية متفرّقة، بل باتت هجوماً شاملاً على كلّ مناحي الحياة الفلسطينية، ومن المؤكّد أنّها العنصر الأهم والأبرز في إضعاف السلطة وإحراجها أمام شعبها وكشف مأزقها الذريع الناشئ عن الاتفاقيات مع إسرائيل من جهة، وعن ميل إلى التعايش مع هذه السياسات بدل مواجهتها بسبب كلفة هذه المواجهة.
لم تعد الاعتداءات الإسرائيلية اليومية حوادث أمنية متفرّقة، بل باتت هجوماً شاملاً على كلّ مناحي الحياة الفلسطينية
لماذا لم تعد إسرائيل تلتزم ما نصّت عليه الاتفاقيات من تمييز بين مناطق مصنفة "أ" وأخرى مصنّفة "ب" و"ج"؟ فكلّ الأرض الفلسطينية مستباحة، ومعها حياة الفلسطينيين، سواء كانوا مقاتلين، مثل جماعة عرين الأسود، أو طلاباً أو صحافيين ومزارعين، وكلّ من وجد في مناطق عمليات الجيش الإسرائيلي، أو في دائرة أطماع المستوطنين، يضاف إلى ذلك الاعتقالات الجماعية وهدم المنازل، والتنكيل بالأسرى، واحتجاز الأموال الفلسطينية التي تجبيها إسرائيل بحكم سيطرتها على منافذ الاستيراد، بحجّة دفع رواتب لأسر الشهداء والأسرى، ومنع أيّ نشاط فلسطيني في المناطق المصنفة "ج" التي تعادل مساحتها 62% من أراضي الضفة الغربية، وصولاً إلى مخططات تهويد القدس وفصلها عن محيطها الفلسطيني، والتشدّد في تطبيق السيادة الإسرائيلية بالكامل على المدينة المقدسة، بما يشمل تغيير الوضع التاريخي القائم فيها، الذي يعهد بالإشراف على الحرم الشريف لدائرة الأوقاف الإسلامية.
لكن، هل تريد إسرائيل حقاً تدمير السلطة الفلسطينية ومواصلة إضعافها إلى درجة انهيارها؟ من مفارقات جديرة بالذكر أنّ أحد أكثر من سعوا وتدخلوا لحماية السلطة الفلسطينية كان وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، بيني غانتس، وهو أحد أقطاب المعارضة حالياً، يشاركه في الموقف، لكن بجهودٍ عمليةٍ أقل، رئيس الوزراء السابق، يائير لابيد، بينما لم يحسم رئيس الوزراء الأسبق، نفتالي بينيت، رأيه تماماً، وإن تعمّد دائماً ذمّ السلطة وتبرير الإجراءات ضدها. ويبدو موقف رئيس الوزراء الحالي، بنيامين نتنياهو، أقرب إلى موقف بينيت من دون إعلانه، حتى لا يتحمّل تبعاته، وكذلك كي لا يصطدم مع الاتجاه الأكثر تطرّفاً في حكومته، ويمثله كلٌّ من الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وأيتمار بن غفير وكلاهما يتبنّى موقفاً مفاده بأنّ السلطة "كيان إرهابي" ولا مشكلة في انهيارها، لأنّ إسرائيل ستتعامل بعدها مع بدائل محلية من زعماء العشائر والحمائل الفلسطينية.
وبعيداً عن مواقف التطرّف والشطط تلك، تبقى المؤسّسة الصهيونية الحاكمة، بأجهزتها الأمنية ودوائرها المختلفة، أقرب إلى تبنّي موقفٍ يحبّذ بقاء السلطة الفلسطينية، لكنّهم يريدونها ضعيفة وخاضعة، أي ليست من القوة بما يمكّنها من اتخاذ مواقف وطنية مزعجة، ولا هي ضعيفة إلى درجة العجز عن القيام بمسؤولياتها الأمنية. فعلى امتداد العقود الثلاثة الماضية، حرصت إسرائيل على الاستفادة من وجود السلطة الفلسطينية في ثلاثة ميادين رئيسية: إعفاء إسرائيل من عبء التعامل مع ملايين الفلسطينيين وشؤون حياتهم وحاجاتهم الاجتماعية والإنسانية، الوظيفة الأمنية ممثلة بالتنسيق الأمني ومنع أعمال المقاومة، ثم إشاعة أوهام وجود عملية سلام، حتى لو كانت متعثّرة ومعقدة، ولكن ثمّة ما يمكن الحديث في حال وفاء السلطة بمسؤولياتها، وبالتالي، لا حاجة لتدخّل العالم ومؤسّساته الدولية في صراع اتفق طرفاه على حله ثنائياً!
ثمّة خطة أميركية جاهزة ومفصّلة وضعها الجنرال مايك فينزل لتمكين السلطة وحمايتها
تواجه السلطة أيضاً تحدياتٍ لا تقل شأناً تساهم في إضعافها، وهي التي تقدّم نفسها نواة لـ"المشروع الوطني"، أي مشروع الاستقلال والحرية وبناء الدولة الفلسطينية، فالسلطة الفلسطينية نتاج اتفاق أوسلو من جهة، لكنّها تمثل امتداداً لحركة التحرّر الوطني الفلسطيني، حيث أنشئت بقرار من المجلس المركزي الذي انعقد لهذه الغاية في تونس في أكتوبر/ تشرين الأول 1993. لكن هذا المشروع الوطني اصطدم بالجدار وانتكس منذ سنوات طويلة، ولم يعد أحدٌ، حتى من بين أكثر المسؤولين تفاؤلاً، مقتنعاً بأن مسار التسوية الذي سارت عليه السلطة عبر المفاوضات الثنائية والرعاية الأميركية سيقود إلى دولة.
وما يفاقم مشكلة عجز السلطة وانسداد الآفاق أمامها استمرار الانقسام الفلسطيني للعام السادس عشر من دون أي أفقٍ ملموس لتطبيق اتفاقات المصالحة وطيّ ملف الانقسام. يزيد الطين بلة سوءُ الأداء الاقتصادي والاجتماعي للسلطة، وتفشّي مظاهر المحسوبية والفئوية والفساد والاستزلام، وانحسار الحريات العامة وقمع المعارضين السياسيين، وتراجع دور المؤسّسات القيادية، بما فيها هيئات منظمة التحرير، كاللجنة التنفيذية والمجلس المركزي، وحتى اللجنة المركزية لحركة فتح، لصالح منهج الاستفراد باتخاذ القرارين، الوطني والاجتماعي، إلى جانب عدم إجراء انتخابات عامة منذ عام 2005 للرئاسة، و2006 للمجلس التشريعي، ساهم ذلك كله في تآكل شرعية السلطة وإضعافها يوماً بعد يوم.
ثمّة خطة أميركية جاهزة ومفصّلة وضعها الجنرال مايك فينزل لتمكين السلطة وحمايتها، وهي تتلخّص بتأهيل خمسة آلاف عنصر أمني وتدريبهم، لبسط سيطرة السلطة على مدن شمال الضفة. وعملياً، هذا يعني زجّ السلطة في محاربة ألوية المقاومة المسلحة، مثل عرين الأسود وكتيبة جنين، وهي تشكيلات تحظى بتأييد جارف في أوساط الشعب. أما قضية حماية الشعب الفلسطيني المستباحة مدنه وقراه وحياة أبنائه وبناته وأرضه ومقدّساته، فلا يكاد يذكر إلّا لماماً كبند من بنود الإدانة والشجب التي تُصدرها الفصائل، أو بيانات التضامن العربي مع الشعب الفلسطيني بعد كلّ مذبحة أو إجراء تعسّفي إسرائيلي، ولم يعد الموضوع يطرح كخطة أو مطلب برنامجي، لا من الأمم المتحدة ولا من راعي عملية السلام الأميركي. وهكذا، سنجد مجموعة من الرعاة الدوليين والإقليميين والمتحمّسين الإسرائيليين لحماية السلطة، أما الشعب الفلسطيني، فليس له إلا الله.