بوسطة عين الرمانة وشاحنة الكحالة في لبنان لا تتشابهان
سارع بعضهم في لبنان إلى تذكّر واقعة بوسطة عين الرمانة قرب بيروت، والتي قتل فيها 27 فلسطينياً كانوا في حافلة في 13 إبريل/ نيسان 1975 في أثناء الكلام عن تبعات انقلاب شاحنة لحزب الله في منطقة الكحّالة المسيحية في 9 أغسطس/ آب الحالي. ذهب هؤلاء في قراءة التشابه إلى الكلام عن حرب أهلية مقبلة، لأنّ بوسطة عين الرمانة كانت رمزاً لبداية الحرب الأهلية عام 1975، وهي موجة اقتتال طائفي شهدت تدميراً ممنهجاً للبنان وشهدت مختلف أشكال القتل على الهوية أيضاً. موجة انتهت عام 1990 حين ذهب أمراء الحرب نحو أشكال هيمنة أخرى، تم على إثرها استباحة الدولة، وإدخال المليشيات بأجهزتها، وانتهت بالانهيار الحاصل اليوم.
والشاحنة التي انقلبت على الطريق الدولي الواصل بين بيروت ودمشق كانت محمّلة بالأسلحة، في منطقة تعجّ بالمدنيين والآمنين، وفي لحظة تأزم واحتدام طائفي، وفوقية غير مسبوقة في خطاب حزب الله تجاه الآخرين، بما تمثّله الحادثة وشروطها بالعنجهية وبالاستهتار بحياة الناس وسلامتهم، خصوصاً بعد انفجار المرفأ الذي دمّر جزءاً من بيروت ومحيطها، وخلّف آلاف الضحايا والمصابين... إلخ. وما زاد الطين بلّة الاشتباك الذي وقع بين مرافقي الشاحنة وأهل المنطقة، وأسفر عن قتيل من كلّ طرف، وكاد لبنان أن يدخل إثره في ما لا تُحمد عقباه، بعد أن وصل الفرز الطائفي إلى ذروته بالتفاف القوى المسيحية (بما فيها التيار الوطني الحر حليف حزب الله) حول أهل الكحّالة، والتفاف الجمهور الشيعي حول حزب الله.
لا يمتلك حزب الله مشروعاً اقتصادياً وسياسياً ولا تصوّراً للدولة يكون بديلاً يقاتل من أجل فرضه
لا يعني ذلك التطابق بين الحادثتين، بل هناك اختلافات تفسّر عدم احتدام الأمور بعد تلك الليلة. أولها أنّ كلّ أطراف الحادثة لبنانيون، على الرغم من تبعية حزب الله بنيوياً وعضوياً وأيديولوجياً لإيران وللخط السياسي والعقائدي والمصلحي الذي تمثله، فلبنانية الأطراف تمنع استسهال تصوير الأمر صراعاً ضد تدخّل خارجي، بما يسحب من يد جميع القوى استسهال تبرير القتال لعدم وجود شمّاعة خارجية تُعلِّق عليها كلّ المشكلات حين تريد التهرّب من المسؤولية.
ومن ناحية ثانية، كان عمود الدولة الفقري عام 1975 قائماً، وكانت القواعد الاقتصادية والإنتاجية تؤدّي مهامها ولو بالحدّ الأدنى، ولم يكن لبنان يشهد كمية الفساد ولا الانهيار والتحلّل الذي يعيشه اليوم، فالحرب الأهلية كانت لحظة تكثيف التصادم حول مشاريع سياسية، في مقدمها مشروع إصلاحي سياسي علماني تغييري في مواجهة مشروع يميني مهيمن، قبل أن تتحوّل الحركة الوطنية إلى مشروع طائفي انتهى بإنتاج هيمنة وغلبة مسلمة داخل بنية الدولة البرجوازية الريعية ونظامها الطائفي ذاته. هيمنة أتت على حساب الوجود المسيحي في السلطة السياسية حتى اغتيال الحريري عام 2005، وما تلاها من بداية تحوّل وانتقال مراكز القوّة من السنّية إلى الشيعية السياسية. أما اليوم فلا يمتلك حزب الله مشروعًا اقتصادياً وسياسياً ولا تصوراً للدولة يكون بديلاً يقاتل من أجل فرضه، بل يتموضع خلف القائم، ويسيطر عليه بالتمام والكمال، ويحاول ممارسة ألاعيبه في التحكّم بالسلطة والتنصّل منها في الوقت نفسه. وهو ما تثبته طريقة تعاطيه مع المنعطفات الحاسمة، وفي مقدمتها انتفاضة 17 تشرين، ودفاعه المستميت عن النظام والحكومة والعهد. جل ما يقوم حزب الله به هو المحافظة على وضع لبنان بيد النظام الإيراني، بعد أن سيطر عليه تمامًا، وحين يرفع سقف خطابه لا يتخطّى الغمز من قناة المثالثة بين المسيحيين والشيعة والسنة، بدل المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.
حزب الله يعيد الدرس، على منوال "الكتائب" ومختلف مشاريع الطغيان الطائفي السابقة، إذ يعتقد أن بإمكانه تفادي نتيجة الهيمنة في بلد طائفي
كما أنّ الحادثتين تأتيان في سياقين مختلفين، ففي حين نتكلّم اليوم عن لبنان المنهار اقتصادياً ومالياً، سيكون كل من يحاول الإمساك بتفاصيله أمام مسؤولية تاريخية لن ترحمه. لذلك يحاول الجميع التنصّل منها، بما فيهم حزب الله. وما ضبابية الوضع الإقليمي والدولي، والتخبّط غير المعروف النتائج في المنطقة والكوكب، إلا زيادةً في صعوبة فرض أي بديل، هذا إن وجد. ناهيك عن أن رأس حربة السلطة في لبنان اليوم، حزب الله، يرتبط بدولة تعيش طورها الهابط، وهي أمام استحقاقاتٍ متلاحقةٍ داخلية ودولية تواجهها، وأمام انتفاضات شعبية مستمرّة، وتعاني من انهيار اقتصادي ومالي... إلخ، وذلك على خلاف مرحلة بوسطة عين الرمانة، حين كان العالم ينقسم إلى قطب غربي تقوده الولايات المتحدة، وقطب شرقي يقودُه السوفييت الذين كانوا يقدّمون أنموذجًا وتصورًا كونيًا مختلفًا. أما النموذج الذي يقدّمه المحور الشرقي اليوم، والذي يندرج حزب الله بوصفه نقطة تكثيف النظام في لبنان في عداده، هو بلاد مدمّرة تقودها ديكتاتوريات فاشية، دولًا ليس لناسها أي مستقبل فيها، بل هم وقود يتم استخدامهم لمشروع كالذي يزعم المحور محاربته، لأنه مشروعٌ لا يمتلك أي تصور اقتصادي وسياسي وكوني مختلف.
هذه عيّنة سريعة من اختلافات جوهرية ترجّح احتمالية عدم تدهور الوضع إلى صراع طائفي مفتوح، أقلّه حتى اللحظة. لكن هذه لا يغير حقيقة أن المشكلة الأكبر بعد كل ما شهده اللبنانيون من حروب طائفية، وبعد كل الشره الطائفي على الاستحواذ، هو إعادة حزب الله التجربة والعنجهية الطائفية التي سبقته، كأنه لم يرتدع ولم يقرأ تاريخ لبنان، ولم يتنبّه إلى أن كل محاولات الاستحواذ تنقلب ضد النتائج المأمولة منها، فالحزب يعيد الدرس، على منوال "الكتائب" ومختلف مشاريع الطغيان الطائفي السابقة، إذ يعتقد أن بإمكانه تفادي نتيجة الهيمنة في بلد طائفي، بما يخالف كل دروس التاريخ والسياسة. وهو، كما كل الأحزاب العقائدية والأيديولوجيّة، يعتقد أنّ رؤيته أكثر صواباً وأقدر على التفلّت من كل النتائج الحتمية، نتائج الضمور والانتهاء، وذلك بالتمسّك بوعد إلهي وبحتمية جوهرانية فوق تاريخية ترى أن بإمكانها التملّص من كل الأسئلة والمشكلات المحورية التي تعصف بالدولة. تلك الدولة التي لا يملك الحزب أي تصوّر بديل لها، وعنها، ولنظامها، ولا أي إجابةٍ عن أسئلتها.