بوتين .. ماذا بعد ورقة الغاز؟

02 أكتوبر 2022
+ الخط -

يشكّل تسرّب الغاز من المواضع التي أصابها الضرر قبل أيام في خط أنابيب نورد ستريم الذي يصل روسيا بألمانيا خطراً بيئياً داهماً. ورغم أنّ الأنبوب متوقفٌ حالياً، لكنّه يحتوي على كميات ضخمة من الغاز المسال الذي تسرّب بعد انفجارٍ أصابه في عدة مواضع. ويثير الغاز المتسرّب من جديد مسألة الطاقة في أوروبا، ومدى التورّط الذي وقعت فيه القارّة بعدما اعتمدت خلال الفترة السابقة على الغاز الروسي، وتقدّر كميته التي تُضَخّ من روسيا بحدود الثلث، وترتفع في بعض البلدان إلى أكثر من 40%، ويبدو أنّ التسريب أخيراً بمثابة رسالة إنذار عاجلة، أنّ الإمداد سيتوقف كلياً، ولن يعود، خصوصاً أنّ الضرر الذي لحق بأنابيب بحر البلطيق من النوع الذي يصعُب إصلاحه، فقد تسرّبت المياه المالحة إلى داخل الأنبوب الذي لن يستطيع مقاومة الأملاح طويلاً، وسيتآكل بسرعة، ما يعني أنّ الضرر سيلحق بأوروبا، لكنّه، في الوقت ذاته، سيلغي ورقة الضغط التي يعتمد عليها فلاديمير بوتين، وهو يبني الكثير من سياساته في أوروبا على أساس امتلاكه اليد العليا في موضوع الطاقة وتوريد الغاز، وقد قاد سياسةً بطيئةً وهادئةً ليتمكّن من التغلغل عبر شبكات الغاز في أوروبا، مستغلاً المسافة القريبة نسبياً ووفرة المادة.

تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا قديم، ويعود إلى العهود السوفييتية التي كانت حريصةً على إمداد دول منظومتها الشيوعية بالطاقة، بالإضافة إلى بعض بلدان أوروبا الغربية، مستفيدةً من القطع الأوروبي اللازم لتجارتها الخارجية. وكانت خطوط الغاز مقتصرةً على خطّين افتتحا في عام 1980: خط ميغا، ويصل إلى فرنسا وشمالي ألمانيا، وشبكة تسمّى سويوز (الاتحاد)، وتمرّ من كازاخستان وأوكرانيا لتصل إلى حدود النمسا. ومع وصول بوتين إلى السلطة في بداية الألفية الجديدة، بدأ بتعزيز شبكات الغاز التي تصل إلى أوروبا، فعقد صفقات واتفاقيات كثيرة نشأت عنها مجموعة كبيرة من الخطوط والشبكات، وبدأت مع افتتاح خط بلو ستريم الذي يربط روسيا بتركيا، ويمر عبر البحر الأسود وافتتح عام 2003، ثم في 2005 استكمل تشغيل خط يامال الضخم الذي يمتد من شبه جزيرة يامال في شمال سيبيريا ويمرّ عبر بيلاروسيا وأوكرانيا ليصل إلى حدود النمسا.

الخط الأكبر كان "نورد ستريم" الذي يربط روسيا بألمانيا مباشرةً عبر بحر البلطيق، وافتتح عام 2011، وقد جعل هذا الخط ألمانيا شريكاً لروسيا في الغاز، ما شجّع الروس على بناء توأم له باسم "نوردستريم2" الذي علق ببعض المشكلات عندما بدأ بوتين يثير الغبار في أوروبا، ولم يوضَع قيد التشغيل. وكانت روسيا بالشراكة مع جمهورية التشيك قد أقامت في 2013 خط غازيلا الذي يصل إلى ألمانيا أيضاً، بالإضافة إلى نظام معقد من الخطوط يسمّى براتستفو (الأخوة)، يمر بأوكرانيا وبيلاروسيا ويمتد داخل أراضي أكثر من خمس دول مجاورة، أعطت هذه الشبكات العملاقة لروسيا دوراً في عملية التنمية والتصنيع في أوروبا عبر الاعتماد على الغاز الذي يضخّ منها.

انخفضت نسبة الضخّ في هذه الأنابيب من الطرف الروسي، وذلك للضغط على أوروبا حتى تعطيه بعض المزايا في حربه التي شنّها بوتين على أوكرانيا، ولكن الدول التي أبدت مرونةً بعض الشيء في البداية أصبحت، مع الوقت، أكثر تصلباً. وبدأت بالفعل بالبحث عن مصادر أخرى لتُحيّد السيطرة الروسية، وقد تجوّل زعماء الدول الأوروبية في منطقة الخليج تحديداً لمحاولة استكشاف سبل تعاون جديدة، منها زيارة المستشار الألماني شولتز. ومع الحادث الأخير، يتعرض خط طاقة رئيسي للضرر الكامل، ما يدفع دول أوروبا إلى غضّ النظر عن الغاز الروسي وسحب هذه الورقة نهائياً من بوتين. وعندها لن يكون في يده إلّا مواجهة اقتصاد منهار، وربما نقمة في الشارع تهدّد مركزه.

فاطمة ياسين
فاطمة ياسين
كاتبة سورية، صحفية ومعدة ومنتجة برامج سياسية وثقافية