بناء نظام هشّ
في الأنباء؛ سافر رئيس البرلمان العراقي المُقال، محمد الحلبوسي، سرّاً إلى إيران، لترتيب خلافته، قبيل انعقاد جلسة التصويت لاختيار رئيس جديد للبرلمان. يرغب الحلبوسي أن يُصوَّت لشعلان الكريّم، وحشد إمكاناته لذلك، ويرغب أن تضغط طهران على حلفائها في بغداد من أجل تمرير هذا الاختيار. من خلال الكريّم، سيستمر الحلبوسي في نفوذه السابق، حين كان يشغل منصبه الرفيع، ويستمرّ في كونه السياسي السنّي رقم واحد في العراق، بعيداً عن منافسيه وخصومه داخل دائرته الاجتماعية الخاصّة. وفي يوم التصويت، وبعد أن تبيّن أن الكريّم قد فاز في جولة التصويت الأولى داخل البرلمان، انشقّ الصفّ الشيعي الى فريقين، ودبّت الفوضى بينهم، ما بين مؤيّدٍ ومعارض، ولقطع الطريق على الكريّم ظهرت فجأة عرائض رسمية مقدّمة إلى "المساءلة والعدالة" لاجتثاث الكريّم بدعوى انتمائه الى البعث المحظور.
ستظهر هذه المقالة للقارئ بعد انتهاء عاصفة اختيار مرشّح بديل عن الحلبوسي لرئاسة مجلس النوّاب. وقد ينجح الحلبوسي في تثبيت مرشّحه، أو يفوز مرشّح معارض له، أو حلّ بين حلّين. وفي كلّ الأحوال، لست معنياً بهذا الموضوع هنا إلا مثالا على حالة التخبّط وعدم الوضوح، وتغّلب المزاج السياسي على السياقات الدستورية والقانونية. ولعل من أفدحها وأكثرها غرابة استمرار إجراءات الاجتثاث السياسي، رغم أنها كانت جزءاً من منهجية "العدالة الانتقالية" التي سنّها بول بريمر، وكان مقرّراً أن لا تستمر إلا بضع سنوات ثم تحلّ نفسها بعد انتفاء الحاجة لها. كما هو الحال مع تعويض ضحايا النظام السابق، وهيئة دعاوى الملكية العقارية، وقانون إعادة المفصولين السياسيين ووزارة الهجرة والمهجّرين والمحكمة الجنائية العليا وغيرها من إجراءاتٍ تهدف الى "نقل" المجتمع والدولة في العراق من فضاء الديكتاتورية إلى الديمقراطية.
للأسف، استُخدمت هذه المؤسّسات، منذ يومها الأول، في الصراع السياسي، وصارت أداة في يد السلطة لتصفية الخصوم، وأُفرغت من محتواها المتعلّق بـ"العدالة"، وبات استخدامها خاضعاً لتأويل واسع، وليس إلى محدّدات قانونية واضحة لا تقبل اللبس.
لدينا اليوم في العراق مؤسسات وبنية سياسية تختلف عن التي كانت في نظام صدّام حسين، وتتحرّك ماكنة السياسة في العراق من وحي الديمقراطية وتحت ظلّها. ولكننا، بالتدقيق، سنرى الفاعل السياسي متحكّماً بالآليات الديمقراطية من خلال استخدام القوّة العارية التي تمثلها سطوة السلاح والإرهاب بمختلف صنوفه، والتجاوز على القانون وتطويعه للحاجات الخاصّة.
قادنا الفاعل السياسي العراقي اليوم، بسبب إخفاقه في بناء المؤسّسات، إلى مأزق كبير؛ فبقاء النظام مرهون بالقوّة العارية، وهو حال، للأسف، يشبه حال نظام صدّام، أكثر مما يشبه النظم الديمقراطية المعروفة في العالم.
ما زالت علاقة بغداد بإقليم كردستان، على سبيل المثال، غير مستقرّة، وتستخدم بغداد ملفّ مرتبات الموظفين للضغط على حكومة الإقليم، بالإضافة إلى تغاضي بغداد الغريب عن هجمات الصواريخ المستمرّة على أربيل، والتي تقوم بها فصائل مسلحة مقرّبة من النظام، أو تضع في النظام رِجلاً وفي "اللا نظام" رجلاً أخرى. وما زلنا نسمع، بين حين وآخر، كما في تداعيات أزمة اختيار رئيس جديد للبرلمان، أن الحلّ هو في "الإقليم السنّي" للتحرّر من تحكّم بغداد وفرض الإملاءات.
العراق اليوم آمن بنسبة كبيرة، ويستطيع السائح الأجنبي التجوال فيه من الموصل وحتى البصرة من دون عوائق أو مشكلات، ولكن الأمر يبدو مقلقاً حين نعرف أن هذا الاستقرار مرهون بالقوة العارية، فهو استقرارٌ شبيه بالذي كان في نظام صدّام. ورأينا الفوضى الشاملة بعد غياب سطوة القوّة لنظام صدّام، وهي فوضى تلوح بالأفق مع أي ضعفٍ للقوة التي في يد النظام الحالي.
هذه الفوضى، التي لا نتمنّى أن تحدُث، لن نراها في البلدان ذات الديمقراطية الراسخة، لأن أي اختلالٍ يحدُث ستعوّضه المؤسسات، بشكل آلي، أو تتخذ إجراءات بديلة وعاجلة، ويستمر النظام العام مستقرّاً. المؤسسات وليست قوّة الأفراد المسلّحين، خارج نطاق الدولة، فالمسلحون يتصرّفون، في نهاية الأمر، من وحي مصالحهم الخاصّة، والمصالح الخاصّة غير المقيّدة بالدستور والمؤسّسات القانونية، ستجعل النظام هشّاً قابلاً للزوال، مهما بدا، في ظاهره، صلباً وقويّا.