بشّار الأسد سائحاً بين الرياض وباريس وغزّة
تكلّم بشار الأسد في القمّة العربية الإسلامية المشتركة، وغير العادية، في الرياض يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني، بما فيه من استباحةِ غزّة الشيءَ الكثير، وبما يضاهي أصلاً استباحةَ إسرائيل القطاع المحاصر والمنكوب، وقبل أن يقرأ كلمته، كان قادة وزعماء قد غادروا قاعة الاجتماعات، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، وملك الأردن عبد الله الثاني، والرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وكأن ذلك التدبير "السياسيّ" كان مقصوداً ومدروساً، أنْ يتركوا بشّار الأسد وحيداً، منبوذاً كفزّاعة لم يعد يكترث لوجودها أحدٌ، ليتحدّث بوجهٍ متصلب الدلالات في آخر ربع ساعة من الجلسة الأولى، قبل أن يُدرك تماماً حجمه السياسي الضئيل، حين توّجه المجتمعون لالتقاط صورة تذكارية، فظهر بشّار يسير بمفرده من دون أن يتبادل الحديثَ معه أيٌّ من الزعماء أو القادة العرب والمسلمين.
ثمّ استطاع رأس النظام السوري أن يرميَ غزّة، ومن الرياض، بكلّ الحقد الذي يأكلُ قلبه، ومنشأه على أيّ حال جاء من الترحيب السعودي الفاتر به، على عكس ما حدث في القمّة العربية في مايو/ أيار الماضي في جدّة، ثم من القسطِ الوافر لتجاهل باقي الزعماء والقادة وجودَه هناك، وكأن الدعوة التي جاءته لحضور القمّة، كان هدفها فقط توجيه صفعةٍ مؤلمة إليه، تُعيده إلى حجمه السياسي الطبيعي، رئيس نظام فاشلٍ وفاقدٍ للشرعية والسيادة الوطنيّة. وإن حضرت غزّة في كلمته، فقد أحضرها معهُ ليبرّر كلّ صمته الفاجر حيال ما يحدُث في القطاع المصلوب منذ أكثر من شهرين، وكأن العالم حائرٌ في موقفه ذاك، ويُعاتبه، ويطالبه بتفسيرٍ جدّي لمأزق صمته الطويل، فكلُّ ما قاله إن العدوان الراهن على غزّة مجرّد حدثٍ في سياق طويل يعود إلى 75 عاماً، كأنما يبرّر فيه. وبهذا الإيماء المتحرّك لفداحة الموت والفناء الفلسطيّني، اعتيادُه على هذا الإرث المشهدّي العام لحرب مكرّرة، لا جديد فيها ليغريه على الحديث.
طلاقةُ الموت التي تُحاور بها إسرائيل فلسطينيي القطاع والضفة الغربية، هي ذاتها الطلاقةُ التي حَاوَرَ بها بشّار الأسد كلَّ السوريين
إذاً، أعادت قمّة الرياض بشّارَ الأسد إلى ضآلة وزنه المعلوم، والتي كان عليها قبل قمّة جدّة، وتلك مدّةٌ سديدةٌ أفادت العرب لحصاد مردودٍ من اليقين يكفيهم لغسل أيديهم من حدوث أيّ تغيير محتمل في سلوك النظام السوري ورئيسه تجاه الملفّات الداخلية أو الإقليمية أو حتى الدولية، لكن مثل هذا اليقين تطلّب من المبادرة العربية (خطوة مقابل خطوة) أن تجسَّ نبض نظام بشار الأسد مراراً فقط لكي تتأكّد من أنه فارق الحياة من النواحي السياسية على الأقلّ. لذلك نجد كيف أنّ بشار الأسد وصل إلى الرياض، وغادرها كأنه المطرودُ منها، فيما تُواصل المعاول والمجارف التي تحرّكها عضلاتٌ منهكة النبش في دير البلح وسط قطاع غزّة، آملةً أن تلمس أصوات أحياء هناك تحت ركام الإسمنت المهشّم، فتذكّرنا دير البلح على الفور بباب عمرو في حمص خلال شتاء العام 2012، لنسترجع على الفور كل أركان مشهد التنكيل المُحوّلِ ببراعةٍ بين زمنين، بين قيادتين حكيمتين، إحداهما في دمشق والأخرى في تل أبيب، تلفّقان لنا الشعارات باذخةِ المعاني بلا استحياء، ثم تُكيلان لنا الموت الأعمى من كلّ الجهات.
لكن، هل يحقُّ لرأس نظام دمشق التفوّه بتلك النصائح التي ترجّلت من كلمته في قمّة الرياض؟ وتلقين "النُصح المُقاوم" لغيره من الزعماء والقادة العرب والمسلمين؟ وهو الذي جعل من سورية غزّة مترامية الأطراف، فطلاقةُ الموت التي تُحاور بها إسرائيل فلسطينيي القطاع والضفة الغربية، هي ذاتها الطلاقةُ التي حَاوَرَ بها بشّار الأسد كلَّ السوريين، ولم يتلعثم بها يوماً طوال الاثني عشر عاماً الماضية.
ثمَّ، وبعد عودة بشّار من قمّة الرياض، توجّب عليه استقبال نبأ إصدار القضاء الفرنسي مذكرة اعتقال دولية بحقة، وثلاثةٍ من أركان حكمه، بمن فيهم شقيقه ماهر، قائد الفرقة الرابعة، بتهم التواطؤ في جرائم حرب ضدّ الإنسانية من خلال استخدام الأسلحة الكيميائية المحظورة دولياً بحقّ مدنيين في الغوطة الشرقية، ومعضّمية الشام في ريف دمشق، في صيف العام 2013، الأمر الذي نجم عنه مقتل أكثر من ألف شخص في حينها.
ابتدع بشّار الأسد مسيرة التدمير والتهجير، حين دمّر تباعاً المحافظات السورية الثائرة عليه منذ 2011 وهجّر سكّانها
ولعل توقيت صدور مذكرة الاعتقال الدولية تلك جاء مهماً للغاية، ولا يمكن تناوله حدثا منفصلا عن الجانب المرئي لإعادة عزل رئيس النظام السوري مجدّداً، لا سيما أنه جاء بعد قمّة الرياض التي انتقدت عجرفة بشّار الأسد بلباقةٍ وتهذيب شديديْن، سواء بتأخير كلمته إلى ثلثِ الساعةِ الأخير من الجلسة الافتتاحية لأعمالها، أم من خلال المكان الذي تَقَرّر أن يجلس فيه هناك، أو الموقع المحدّد له بين القادة والزعماء في أثناء التقاط الصورة التذكارية للحاضرين في القمّة. كما أنّ الموعد الذي جاء فيه صدور مذكّرة الاعتقال تلك كان مفيداً لأجل إيقاظ ذاكرة زعيم النظام السوري من نومها المديد، المفترض أن تكون أمينةَ الحفظِ لسجلّ بهيجٍ من صورِ تقتيل السوريين وتهجيرهم، وبعثرة بلادهم ذات اليمين وذات الشمال، فيكون حديث بشّار الأسد عن فظائع العدوان الإسرائيلي على غزّة هو مجرّد تفنيدٍ غير منصفٍ لمنهجية إجرام، يمتلكها أصلاً صاحب الحديث نفسه، بل ويمتلك ما هو أبشعُ منها.
وربما يكون دور بشّار الأسد قد شارفَ على الانتهاء في سورية، وهو الذي كان بارّاً له إلى حدّ لا يوصف، منذ ابتدع مسيرة التدمير والتهجير، حين دمّر تباعاً المحافظات السورية الثائرة عليه منذ العام 2011 وهجّر سكّانها، مروراً بابتكاره مسيرة البيع والتأجير، حين خاض غمار ملذّات بيع البلاد لحليفيه الإيراني والروسيّ، وصولاً إلى مصادقته على مسيرة التقسيم، وهي مسيرةٌ لم تنتهِ بعد، ما زالت فصولُها تُحاك الواحدَ تلو الآخر، وما الحرب على غزّة إلا مقدّمة لأحد تلك الفصول، وربما لأكثرها أهمية، وما انتفاضة السويداء الحالية سوى محاكاة لنموذج المحافظة الصغيرة المتمرّدة على المركز الحاكم، والتي تُركت على سجيّتها من غير أن تُكمّم أو تُجابه لا أمنيّاً ولا عسكرياً طوال ثلاثة الأشهر الماضية.
هكذا قُمعت سورية، ثم بيعت، ثم تجزّأت، وتلك سيرةٌ قديمة يأتي أولها من منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1970، حين وصل حافظ الأسد إلى حكمها بانقلاب عسكريّ أبيض، ويكتمل سردها منذ توريث بشّار الأسد السلطة عام 2000، وتلك سيرةٌ مفضوحةٌ لعائلة باعت فقبضت فبقيت.