بسيط ومذهول ويتألّم... شكراً يا شيخ
كان المتصور أن شيخ الأزهر، أحمد الطيّب، قد تحرّر من سجن الدوران في فلك النظام الرسمي، وصار له خطابه الخاص الذي يليق برجلٍ يترأس مظلة روحية لنحو ملياري إنسان على مستوى العالم، غير أن الرجل سرعان ما عاد إلى التماهي مع خطاب النظام، ليس في مصر، مقرّ مشيخة الأزهر فقط، وإنما عموم الأنظمة العربية فيما خصّ المواقف من العدوان الصهيوني على غزة.
جالسًا على مكتب أنيق، فوق سطحه نبتةٌ اصطناعية شديدة الاخضرار، تحدّث الإمام إلى رئيس الإمارات وضيوفه في مؤتمر المناخ، يحثهم على حماية البيئة من أخطار التلوّث في الفناء، في اللحظة ذاتها التي تشعل فيها نيران جدران (وأسقف) البيوت بساكنيها في غزّة، فتلتهم نحو مائتي شهيد يوميًا بفعل آلة القتل الصهيونية.
كان شيخ الأزهر يخاطب، بكل أدبٍ وتهذيب، أصحاب السمو والجلالة والفخامة من حكام الدول، وفي وسطهم رئيس الكيان الصهيوني الذي ينتشي مع أخبار تقدّم قوات الاحتلال على طريق إبادة غزّة وتهجير سكانها إلى الجحيم، لكي تعيد استيطانها.
بعد أن انتحب مطوّلًا على المناخ والبيئة مرّ الشيخ أحمد الطيب على موضوع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غزّة، قائلًا "ولا يمكن لي، أيها السَّادة الأفاضل، أن أغادر مقامي هذا، قبل أنْ أوجِّه نداءً، أو صرخةً من رَجُلٍ مُسلم بسيط، يتألَّمُ لآلام الشُّعُوب الضَّعيفة والفقيرة المغلوبةِ على أمرِها، إنَّها صرخة إنسانٍ مذهولٍ من هول آلة القتل الإرهابية الجهنميَّة التي يُعملها قُساة القلوب في صفوف المواطنين الآمنين من النِّساء والرجال والأطفال والرُّضع والخُدَّج، ومن مظاهر العنف والتخريب والدَّمار التي تشهدها أرض فلسطين السليبة.. وأقول للعالَم كله: إنَّه آن الأوان لوقف هذه الحروب البشعة المُجْرِمة، وأؤكِّد أنَّها لو استمرّت هكذا، لا قدَّر الله، لن يتبقى لنا بيئةٌ نحافظ عليها، أو مناخٌ نبقيه نظيفًا لأبنائنا وأجيالنا في مُستقبلٍ قريبٍ أو بعيد".
بالمناخ بدأ وبه انتهى الإمام الأكبر الذي كان نشطاء يطلبون منه قبل أسابيع قيادة قافلة شعبية دولية إلى معبر رفح، لكسر الحصار المضروب على شعبٍ من "الشعوب الضعيفة والفقيرة المغلوبة على أمرها". هكذا ينظر الشيخ إلى شعب غزّة الذي يحارب وحدَه أعتى آلة عسكرية في العالم، ويصمد أمامها مسجّلًا بطولاتٍ من زمن المناضلين والمجاهدين الأوائل، في ظل خذلان تام وتواطؤ يبلغ حدّ التآمر من ذوي القربى، جغرافيًا وإسلاميًا وعربيًا، ويصرخ أطفاله وشيوخُه ونساؤه كل يوم طالبين العون والغوث من الإخوة الذين غدروا به.
هذا الشعب الذي يتعرّض لمحرقة مستمرّة منذ نحو شهرين تفوق في بشاعتها ووحشيتها هولوكوست النازي وكل حرائق المناخ الذي ينفطر الإمام عليه حزنًا وقلقًا، كان ينتظر أن يمنحه شيخ الأزهر تضامنًا مماثلًا مثل تضامنه مع المناخ والبيئة، وأن تكون صرختُه في وجوه حكّام يصادقون العدو ويتجاهلون الشقيق، بل يحقد بعضهم عليه، ويناصبونه كراهية وغلًّا لا يقلّان عما في صدر الصهيوني نحوه.
كانت فرصة العمر تنادي على شيخ الأزهر، لكي يختم حياته بمجدٍ يخلده التاريخ، فيفعل شيئًا قريبًا مما فعله العزّ بن عبد السلام حين هجم التتار على الديار، وألا يكون صدى لصوت النظام الرسمي العربي الذي اجتمع في "قمّة" أبت أن تتّخذ إجراءً واحدًا يثير غضب العدو ويحيي أمل الشقيق في الصمود وصد العدوان.
أعرب الشيخ عن الذهول والألم، تمامًا وكأنه ينقل من بيانات الإدانة والشجب الصادرة عن الحكومات العربية، من دون أن يذكر كلمة واحدة عن حقّ الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وتحرير أرضه. فقط، أبدى قلقه من تأثير العدوان الهمجي على المناخ!