بريطانيا لم تتّجه يساراً
ثمّة مبالغة في تصوير الانتصار الساحق الذي حقّقه حزب العمّال البريطاني في انتخابات مجلس العموم (البرلمان) أول من أمس الجمعة، وحملت رئيسه كير ستارمر إلى "10 دواننغ ستريت"، بأنّه يُمثّل عودة "اليسار" إلى السلطة في بريطانيا، على خلاف ما يوصف بـ"الموجة اليمينية" التي تجتاح أوروبا، بما في ذلك البلدان المحورية فيها، فرنسا بالذات، حيث اضطرّ رئيسها إيمانويل ماكرون إلى الدعوة إلى انتخابات برلمانية مُبكّرة، حقّق فيها حزب التجمّع الوطني بزعامة مارين لوبان نسبةً وازنةً من الأصوات، أهّلته لتصدّر نتائج الجولة الأولى. وسيناريو مشابه جرى في إيطاليا، قبل ذلك، حمل زعيمة حزب (أخوة إيطاليا) جورجيا ميلوني إلى الحكم. وتكرّر الأمر نفسه في هولندا، فيما تُظهِر المُؤشّرات صعوداً لافتاً لليمين الشعبوي في ألمانيا أيضاً.
يطرح الحديث عن صعود اليمين في أوروبا سؤالاً وجيهاً عمّا إذا كان اليسار هو الذي يحكم بلدانها قبل الموجة اليمينية، لكي نتحدّث عن انعطافة إلى اليمين، فيما الحقيقة أنّ البرامج الاجتماعية والاقتصادية المعمول بها في هذه البلدان لا تَمتُّ بصلة إلى اليسار. والمفارقة أنّ جوانبَ من البرامج الانتخابية لما يوصف بـ"اليمين الشعبوي" قادرة على استقطاب قاعدة شعبية واسعة، كانت تقليدياً تُصنّف قاعدةً لليسار. وبالمثل، يَطرح الحديث عن (الاستثناء) البريطاني الراهن، بفوز حزب العمّال وتصويره عودةً لـ"اليسار" إلى الحكم، سؤالاً وجيهاً عن المدى الذي يَصِحُّ فيه وصف هذا الحزب يساريّاً. هل يمكن نسيان أنّ زعيم هذا الحزب الأسبق توني بلير كان في الحكم عشر سنوات متواصلة (2007 - 2017)؟ من في وسعه الزعم بيسارية بلير وقيادة حزبه في تلك السنوات؟ وبلغ الأمر أنّ بلير كان شريكاً لجورج بوش (الابن) في غزو العراق وتدميره (2003)، وحتّى عندما نجح التيار "الراديكالي" في الحزب في إيصال جيرمي كوربين إلى رئاسته، وهو المعروف بميوله التقدّمية وتأييده قضية الشعب الفلسطيني، جرى التآمر عليه وإقصاؤه بعد انتخابات 2019، ليأتي بعده كير ستارمر في رأس الحزب، الذي يقول عنه مُؤيّدوه إنّه أعاده إلى الوسط، وهي مفردة مُخَاتِلَةٌ ملتبسةٌ لا يُفهم منها "لا حقٌّ ولا باطل"، كما نقول في عامّيتنا.
لم يجد ستارمر حَرجَاً في تعريف الناخبين بأصوله المتواضعة، فوالدته ممرّضة مصابة بداء التهاب المفاصل يمنعها من التنقّل، ووالده صانع أدوات، بل إنّه وجد في ترويج هذه الصورة عن نفسه وسيلةً دعائيةً لإظهار قربه من القاعدة الشعبية البسيطة، على خلاف صورة زعيم حزب المحافظين ريشي سوناك، المليونير وابن مهاجرَيْن من أصل هندي، نجحا في أن يصبحا من النخبة الاقتصادية المُتنفّذة. وإضافة إلى أصل سوناك غير البريطاني، فإنّ "بروفايله" رجلاً ثريّاً لم يجعل منه زعيماً مقبولاً، حتّى في قاعدة حزبه التي لن تنسى له أنّه قاد الحزب إلى أسوأ هزيمة انتخابية عرفها خلال عقود.
لا يعني إبراز النشأة العائلية المتواضعة لستارمر أنّه يساري النزعة بالضرورة. على من صوّتوا له أن ينتظروا فترة كافية من الوقت ليختبروا إلى أيّ مدى سيكون وفيّاً للوعود التي أطلقها في حملته الانتخابية، وهي وعودٌ جاذبة ومُهمّة. ولكن، كالعادة من دون تطبيق هذه الوعود مسافات يتعيّن قطعها. وعلى سبيل المثال، وعد ستارمر، ومعه حزبه بالطبع، بتوفير الاستقرار الاقتصادي من خلال قواعد واضحة بشأن الضرائب والإنفاق، وتشمل عدم زيادة معدّلات ضريبة الدخل الحالية أو التأمين أو ضريبة القيمة المضافة، وتحسين الخدمات الصحّية، وزيادة البدلات للعمل في عطلات نهاية الأسبوع والعمل المسائي، وإنشاء قيادة أمن الحدود بصلاحياتٍ مماثلة لصلاحيات محاربة الإرهاب بهدف وقف عصابات الاتّجار بالبشر وتهريبهم، وإنشاء شركة طاقة نظيفة مملوكة للقطاع العام بهدف إيجاد فرص عمل، والاستثمار في الطاقة النظيفة، وتوظيف 6500 مُعلّمٍ إضافي، وتقديم نوادي إفطار مجّانية في كلّ مدرسة ابتدائية في إنكلترا، وهناك وعود أخرى غير هذه أيضاً.
على صعيد السياسة الخارجية، أعلن حزب العمّال الاستمرار في سياسة معاداة روسيا، ودعم أوكرانيا. وتجاه القضية الفلسطينية، تحدّث وزير الخارجية الجديد عن ضرورة وقف الحرب على غزّة، وتأييد إقامة دولة فلسطينية. هنا أيضاً، ننتظر الأفعال، لأنّ الاٌقوال كثيرة.
لا يعني فوز حزب العمّال طيَّ صفحة "اليمين الشعبوي" في بريطانيا أيضاً. تؤكّد وسائل إعلام غربية أنّ من المستحيل تجاهل اليمين المُتشدّد في البرلمان الجديد، إذ إن "نفوذه ينمو بشكل أكبر".