برلمان "الست الوالدة"
.. وهكذا تمخّضت مصر فولدت برلماناً عكاشياً، يشبهها تماماً في طورها المبتذل، يجلس فيه النائب العريق العتيق، كمال أحمد، بجوار عكاشة وتانجو وبانجو ومانجو، وهو الذي كان، في سبعينيات القرن الماضي، يقف هصوراً، في مواجهة أنور السادات، فيصيح الأخير غضباً من جسارته.
هو "برلمان الست الوالدة"، والتسمية ليست لي، بل مقتبسة من شيخ الأزهر أحمد الطيب الذي عبّر عن غضبه من ضعف الإقبال على المرحلة الثانية من انتخابات برلمان العسكر، خصوصاً من الشباب، فاعتبر أن مقاطعة الانتخابات تعادل عقوق الوالدين، وفصّل بأن مصر هي "الست الوالدة"، لا يجوز التأخر عنها.
إذا أردت أن تعرف عمق القاع الذي انحدرت إليه مصر في زمن الكفتة، ابحث عن مقعد النائب كمال أحمد في البرلمان العكاشي، وفتّش في ذاكرة التاريخ عن مقعده القديم، حين كان نائباً شاباً في دورة برلمان 1976، وقارن بين زملائه وقتها، وزملائه الآن في "برلمان دعم الدولة".
كان زملاء كمال أحمد ومنافسوه وخصومه، قبل أربعين عاماً، إبراهيم شكري وفؤاد محيي الدين وخالد محيي الدين وياسين سراج الدين وممتاز نصار وصلاح أبو إسماعيل وعادل عيد، وسلسلة طويلة من أبرز العقول المصرية.. والآن، مَن زملاؤه ومنافسوه ومجاوروه، في برلمان كانت سما المصري قاب قوسين أو أدنى من الترشح له، والفوز بأحد مقاعده؟
ربما ينظر كمال أحمد إلى يمينه، فيجد مرتضى منصور وولده، وعلى يساره فيرى عبدالرحيم علي، وسمير غطاس، وساعتها قد يتذكّر أنه كان ضمن النواب الـ13 الذين رفضوا معاهدة كامب ديفيد، أيام برلمان السادات الذي جُن جنونه، وقرر حل مجلس الشعب، ثم اعتقل بعدها كمال أحمد فى حملة سبتمبر/أيلول 1981 ضمن رموز القوى الوطنية، محمد حسنين هيكل، وفؤاد سراج الدين، وفتحي رضوان، وفؤاد مرسي، وإسماعيل صبري عبدالله، ومحمد حلمي مراد، وعادل عيد، وعصمت سيف الدولة، وعبدالفتاح حسن، وآخرين.
في "حفل افتتاح" مجلس نواب عبد الفتاح السيسي، وولده، بدا، منذ اللحظة الأولى، أن أولى مهامه هي تعديل الدستور، بما يلائم جنرالاً يريد توسيع سلطاته، ويبقى مهيمناً على سلطة التشريع، كما عبر عن ذلك، بلا مواربة، إعلامه وائتلاف "دعم الدولة" الذي صنعه على عينه، وبمعرفة أجهزته الأمنية.
مشهد مرتضى منصور، وهو يقف رافضاً أداء القسم البرلماني على الدستور كله، معلناً أنه غير راضٍ، ولا مقتنع، بمجمل الدستور، هو ضربة البداية في سباق تغيير الدستور، وهو أيضاً المسمار الأخير في نعش ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، والتي هي، بنظر الأغلبية في مجلس نواب السيسي، تسمى "ثورة 25 زفت"، أو المؤامرة، أو ثورة العملاء والخونة الذين يجب تعليقهم على أعواد المشانق، أو يساقون إلى المحرقة.
ليس من قبيل المصادفات أن تتحول ثورة يناير في الخطاب الرسمي المصري إلى "حركة" أو "تنظيم مخالف للقانون"، قبل ساعات من انعقاد "برلمان 30 يونيو"، فقد هرم القوم، كما عبروا في كلماتهم، من أجل هذه اللحظة التي يستولون فيها على سلطة التشريع، لكي ينتقموا من ثورة المصريين، التي أطاحتهم، وأطاحت فسادهم وقبحهم، خارج المشهد، ثم راحت تحلم بديمقراطية وعدل وحرية وكرامة.
حتى الذين لا يزالون يتمسّحون في أوهام وأساطير المزج بين "يناير الثورة ويونيو الانقلاب" لم يكن وصولهم إلى البرلمان مصادفة أو مفاجأة، بل جاؤوا، وفقاً للخطة، وتبعاً للنسبة المطلوب وجودها، ديكوراً مكملاً، يلعبون دور النطيحة والمتردية والموقوذة وما أكل السبع، على مائدة ضباع الثورة المضادة.. جاؤوا مثخنين بجراح السيديهات والتسريبات الفاضحة، ليكونوا مثل مجموعة من القطط الأليفة، في طرقات، وتحت موائد السادة الغزاة العائدين للثأر.
بمواجهة برلمان اليمين الانقلابي المتطرف، بات شعب الخامس والعشرين من يناير أمام اختبار مصيري، مثل ذلك الاختبار الذي وجدوا أنفسهم فيه، عقب تشكيل برلمان حسني مبارك، وولده، في نهاية العام 2010، وما أشبه الليلة بالبارحة، فكلا البرلمانيْن تشكّل عقب انتخابات، تشبه المباريات المشفرة، التي تقام من دون جمهور.
في نهاية 2010، غابت الجماهير عن انتخابات البرلمان المعطوبة، لكنها افتتحت 2011 بثورة شهدت حضوراً أسطورياً.. ثم غابت، في تعفف، عن مسخرة انتخابات برلمان نهاية 2015، وها نحن في شهر الثورة.