انقلابٌ قادمٌ في سورية وجوائزُ كثيرة
ينتقل آرثر هوانغ فجأةً إلى عقل بشّار الأسد ويقيم فيه، الأول مهندسٌ تايوانيّ بارعٌ بإعادة تدوير النفايات، والثاني زعيمُ نظام هَرِم مصابٍ بشتّى أصناف العُقم السياسي. رأينا تجليات ذاك الانتقال، وقد حدثت حين ترأّس بشار الأسد اجتماع اللجنة المركزية لحزب البعث يوم 16 ديسمبر/ كانون الأول، بدا يومها وكأنه يُلصق بيديه أوراق نعي حزب البعث على وجوه الحاضرين المتلكئة، ويطمئنهم في آن إلى إمكانية تدوير حزبهم إلى آخرَ جديد، كأنما يشبه الأمر لدى الأسد نفاياتٍ يسهلُ التخلّي عنها، ومن ثمَّ زجّها داخل آلاتٍ رحيمةٍ تُعيد امتحانها، ومن ثمّ صياغتها منتجٍا جديدا يحتاجه السوق السياسيّ في هذه الآونة بالتحديد.
كانت أفكار بشّار الأسد في ذاك الاجتماع غيرَ منتظرة، وكأنها هرعت من تخومٍ بعيدة لملاقاة الجميع، هكذا وبلا موعدٍ مسبق، لم تستملها فجاجةُ الديباجة النقدية بصورتها الهجائية القارصة فحسب، وإنما جلست أفكار رئيس النظام السوري الجديدة إلى جوار من حضر، ضيفاً غير منتظر، حتى أنّ بعضها قصدَ سبيل تغيير الرؤية الفكرية والتنظيمية لحزب البعث، من خلال قيادة قُطرية جديدة منتخبة، وهذا سيحدُث للمرّة الأولى، إذ سادَ عُرف تعيينها في فترتي الحكم الأسديتين للبلاد، ولعلّ تلك الأفكار انقادت متحايلةً في بعضها لتحميل منظومة الحكم في سورية تبعات الكارثةِ النكبةِ التي رقدت فوق مصير البلد منذ العام 2011.
النتائج التي يريدها الأسد، كما فهمنا من حديثه، تتطلّب نظام حكم جديدا غير الذي تكرّس داخل احتكار عائلته للسلطة في سورية
هل كان بشّار الأسد على ما يرام يومها؟ وذاك سؤالٌ محيّر أكلَ وجوه الحاضرين، إذ كيف لهم أن يفهموا انتقاد رأس النظام النظامَ نفسه؟ فالنتائج التي يريدها الأسد، كما فهمنا من حديثه، تتطلب نظام حكم جديدا غير الذي تكرّس داخل احتكار عائلته للسلطة في سورية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، في وقتٍ كان الحاضرون فيه ينتظرون سماعَ ما تشبّث به لسانُ زعيم نظامهم طوال السنوات الماضية، من أنّه ونظامه جابهوا مؤامرةً كونيةً شرّيرةً للغاية، ومن أنّ حربه وحرب نظامه كانت طاهرة ضد الإرهابيين الأشرار! لكن المستغرب أنه ركض هذه المرّة بكلامٍ جديد صوب التواءٍ سياسي آخر، أوصلهم نحوه حين حدّثهم عن توجّب مناقشة الوضع السوري من الألف إلى الياء، ومعه وجوب مناقشة كلّ التراكمات التي حدثت منذ الوحدة مع مصر عام 1958، أو حتى قبلها، والتي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، لذلك يحتاج بشّار الأسد، كما قال، إلى تغيير السياسات الكبرى، لأن تغيير الأدوات وحدَه لا معنى له.
لكن ما الذي بدّل عقل الأسد الخشن، المعاند للتغيير فجأةً؟ ولماذا هذه الحملة التبشيريّة الداعية إلى اعتناق الإيمان بصوابيّة إعادة تدوير النظام السوري الحاكم وحزب البعث الآن؟... سيكون من الهام هنا مراجعة مأزق الحكم في سورية، وإلى أين وصل؟ وبأنه وضمن إملاءات خارجية بات مجبراً على احتواء مأزقية وجوده تلك، بإعادة تدوير نفسه كأي قُمامةٍ حقيقية، فالمطلوب منه ربما قد لا يتجاوز بوابة التغيير الشكلي التجميليّ، من دون الإفراج عن مضمونٍ سياسيّ جديد وحقيقي، كما كان يأمل السوريون. وقد تكون إسرائيل والولايات المتحدة هما من طلب ذلك، أو ربما تكون تلك طلبات الأتراك ودول الخليج العربي، أو ربما إيران وروسيا من تُريدان ذلك بالفعل، أو ربما أولئك جميعاً باتوا منزعجين من رائحة النظامِ السوريّ الجيفةِ، ويريدون طلاء الجثّة برائحةٍ لا تثير كلّ هذا التقزز والاشمئزاز من حولها.
علينا الانتباه كيف أنّ بشار الأسد سكتَ عن نكبة غزّة الحالية، ولم يستثمرها كما اعتاد ونظامه في السابق استثمار القضية الفلسطينية
سيتزعّم بشّار الأسد أخيراً حزباً جديداً، وقد أُعيد تدويره من حزب البعث نفسه، ولكن بأهداف جديدة، لا وحدة فيها، ولا حريّة، ولا اشتراكية، ولن تكون فلسطين بعد ذلك قضيّةً مركزية لبروباغندا السياسة السورية، وهي تُصدّر رؤاها الزائفة عن ضرورة تناول وجبةٍ دسمةٍ من الصمود والتصدّي والممانعة صباح كلّ يوم، وعلينا الانتباه كيف أنّ بشار الأسد سكتَ عن نكبة غزّة الحالية، ولم يستثمرها كما اعتاد ونظامه في السابق استثمار القضية الفلسطينية لأجل إلهاء السوريين عن المطالبة بحقوقهم الأساسية، والتنبّه لها، ومن المرجّح أن يترافقَ ذلك مع إغلاق فرع فلسطين أو الفرع 235 سيئ الصيت، كونه فرع المخابرات الأكثر إثارةً لرعب السوريين داخل منظومة بشار الأسد الحاكمة، كما تتكاتفُ الآن تكهناتٌ كثيرة عن دمج فرعي الأمن السياسي وأمن الدولة في فرع مخابراتيّ واحد، وإلغاء عمل فروع مخابرات أخرى في تلك الدولة البوليسيّة السّامة كالفرعين 290 و291 المتخصصَين بشؤون الضباط السوريين وصفّ الضباط.
ثمّ سيكون النظام الجديد ذو الصيغة التجميلية متصاحباً مع تطبيقٍ واسع للامركزيّة الإدارية، والانزياح عن السطوة الصارمة للمركز الحالي، وهذا سيمكّنه من مغازلة الصيغة السياسية القائمة في منطقة الإدارة الذاتية لإقليم شمال سورية وشرقها، ومن تشجيع الجنوب السوري على اقترافها بلا خوف. ويبدو هذا الطرح منسجماً مع تعيين بشّار الأسد أخيراً لمياء شكور في منصب وزير الإدارة المحلية، وهي التي كانت قد شغلت سابقاً منصب السفير السوري في فرنسا، ولها رؤيتها المتكاملة حول تطبيق اللامركزية الإدارية، بالإضافة إلى علاقاتها الواسعة مع الفرنسيين، وصلاتها الطيبة مع المنظمات الدولية.
قريباً سينام بشّار الأسد مطمئناً، لا ضجيج يهدّد أمنه، فقط مجرّدُ مدنٍ هالكة، أهلكتها يداهُ، يسمعُ صوتها ولا تعنيه
سيحاول النظام المرمّم القادم إذاً اللحاق بتلك المتغيرات، واحتواءها سياسياً، من دون مجابهتها كما اعتاد سابقاً، وأخفق، وقد يكون قبوله بتطبيق اللامركزية الإدارية في نظام الحكم الجديد أشبه بجائزة يمنحها للأكراد في منطقة حكمهم الذاتيّة حالياً، كما سيحصل الدروز المنتفضون على بشّار الأسد ونظامه في السويداء، جنوب سورية، على جائزةٍ أيضاً، إذ سيختفي حزب البعث من الوجود، وهم الذين دأبوا على إغلاق مقرّاته في المدينة والريف منذ أكثر منذ خمسة أشهر تقريباً، وبالتالي، ستكون هذه الجائزة ثمرة حراكهم الوحيدة، قبل أن يعيدهم الشتاء إلى منازلهم، وهم الذين لطالما صاحوا "سورية بلا حزب البعث غير"، وقد تصير سورية بالفعل من دون حزب البعث في العام المقبل، هذا بالإضافة إلى إمكانية تحصّلهم على قسطٍ وافٍ من إدارة شأنهم العام وفق اللامركزية الإدارية، وهذه المرّة برغبة من النظام نفسه.
قريباً سينام بشّار الأسد مطمئناً، لا ضجيج يهدّد أمنه، فقط مجرّدُ مدنٍ هالكة، أهلكتها يداهُ، يسمعُ صوتها ولا تعنيه، قد ينام إذاً غيرَ آبهٍ بآلاف جثث السوريين المنسيّة، والتي باتت مغروسةً تحت بشرة وجهه، داخل طبقات سميكةٍ وعميقةٍ من مادة "البوتكس" القبيحة، يحكّها ولا تزول، وتحت بشرة وجهه أيضاً رائحة المغيّبين قسراً في أقبية سجونه وشهوته للسلطة، أولئك سيكونون غائبين عن الحبكة الرخيصة التي يجري العمل على كتابتها الآن، لتكون الجزء الشيّق من الحكاية المقبلة، عن سورية السعيدة التي لا يريد لها هذا العالم أن تكون من دون بشّار الأسد، هذا العالم الذي على آرثر هوانغ إعادة تدويره بلا تردّد.