انقلابات أفريقيا والأسئلة الغائبة في التقارير الأممية
كانت الانقلابات شائعة في أفريقيا ما بعد الاستعمار، ثم انتشرت موجةٌ من الانتقال إلى الديمقراطية في جميع أنحاء القارّة منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين. وحقّق الاتحاد الأفريقي منذ نشأته عام 2000 بعض التقدّم في التمسّك بالديمقراطية معيارا للحكم، حيث يؤكّد القانون التأسيسي له وكذا "الميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم" على التزام القارّة بالقيم والمبادئ المشتركة للتغيير السلمي للسلطة من خلال عمليات انتخابية حرّة ونزيهة وذات مصداقية. كما أنشأ الاتحاد الافريقي آلية للإنذار المبكّر، ووضعت تجمّعات اقتصادية إقليمية أخرى صكوكًا مماثلة تعكس هذه المعايير في جميع أنحاء القارّة.
وقع أحدث انقلابات أفريقيا في النيجر في 26 يوليو/ تموز 2023 بعد مدة قصيرة من صدور تقرير أممي بعنوان "الجنود والمواطنون: الانقلابات العسكرية والحاجة إلى التجديد الديمقراطي في أفريقيا" أصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في نحو 190 صفحة. يطرح التقرير أربعة أسئلة بحثية رئيسية في غاية الأهمية، غير أن الإجابات عنها تظلّ محدودة، كما أن التقرير لم يتطرّق لأسئلة أخرى تتسم بالأهمية الشديدة، كان تناولها كفيلا بأن يكون التقرير أكثر شمولا ودقّة، وذلك كما ستوضحه السطور التالية.
الأسئلة: ما هي محرّكات التنمية للانقلابات العسكرية في أفريقيا؟ ما الذي يفسّر الدعم الشعبي الواضح لمثل هذه الانقلابات في الوقت الراهن، بما في ذلك في السياقات التي أطيح فيها القادة المنتخبون ديمقراطيا؟ ما الخيارات السياساتية التي على الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية النظر فيها لمنع الانقلابات العسكرية بشكل فعّال؟ ما الذي يمكن أن تفعله هذه الجهات الفاعلة لاستعادة النظام الدستوري والحفاظ عليه، وإعادة ضبط العقد الاجتماعي، وتعزيز الحكم الديمقراطي الشامل في البلدان المتأثرة في بلدان الساحل؟
شهدت أفريقيا في 70 عاما 98 انقلابًا بمتوسط سنوي قدره 1.4
يرصد التقرير صعود القوات المسلحة إلى السلطة في أفريقيا بشكل غير دستوري خلال العقد الماضي، حيث شهدت القارة بين 2020 و2022 ستة انقلابات عسكرية ناجحة، اثنان منها كانا "انقلابات داخل الانقلابات"، بجانب ثلاث محاولات انقلاب. وهذا يمثل زيادة بنسبة 229٪ تقريبا في الانقلابات خلال فترة الـ 20 عاما السابقة، كما أشار التقرير. وألمح التقرير إلى تزايد ما تسمّى "الانقلابات الدستورية" التي يقوم بموجبها الرؤساء بتعديل الدساتير لفتح حدود الولاية والسماح بولايات ثالثة ورابعة وحتى خامسة (17 دولة، منها ثلاث دول عربية، مصر والجزائر وتونس). وحسب التقرير شهدت أفريقيا في 70 عاما (1952-2022) 98 انقلابًا بمتوسط سنوي قدره 1.4.
يعتمد التقرير منهجيا على آراء وسرديات 8000 مواطن، منهم 5000 مواطن عاشوا الانقلابات في بوركينا فاسو وتشاد وغينيا ومالي والسودان، و3000 مواطن من بلدان أفريقية على طريق التحوّل الديمقراطي هي غامبيا وغانا وتنزانيا. وبعيدا عن عدم دقّة استخدام كلمة "مواطن" في سياقات "دول" تكاد الأركان الرئيسة للمواطنة تكون غائبة بالكامل، يرى واضعو التقرير أن مبرّر اختيار هذه المنهجية هو تحديد الثغرات في جهودهم عبر الاستماع إلى أصوات المواطنين، وخصوصا النساء والشباب. ومن المفيد بالفعل معرفة رأي رجل الشارع العادي والاستماع إلى همومه وسرديّاته، لكن أليس هناك ثغرات أخرى تحتاج أدوات مختلفة مثل فتح أرشيف الدول الاستعمارية السابقة منذ ما يعرف بمؤتمر التسابق أو التزاحم على أفريقيا المنعقد في برلين بإشراف بسمارك عامي 1883 - 1884، أو الاستماع إلى الخبراء والمؤرّخين الموضوعيين لمعرفة جذور المشكلات السياسية في أفريقيا، ولربط الاهتمامات اليومية للناس بديناميات النظام الإقليمي والدولي التي لا تعرف الحدّ الأدنى من العدالة والإنصاف؟ هذا سؤال مهم بالنظر إلى أن التقرير يتحدّث عن عوامل هيكلية ومؤسّسية وتاريخية، ويقدّم مقترحات للمستقبل يراها شاملة ومتنوعة.
أسباب الانقلابات
يحلل التقرير العوامل التي ساهمت في هذه الموجة من الانقلابات أخيرا، وهنا يشير إلى الدوافع الهيكلية والمؤسّسية، وكذلك المحفّزات الطارئة التي يمكن أن تشعل الانقلابات. ومع هذا، تظلّ معالجات التقرير محدودة، فمثلا عند حديثه عن عامل "انعدام الأمن في منطقة الساحل" سببا للانقلابات، يمرّ سريعا على الآثار السلبية للتدخّل الغربي ليركّز على مسائل محلية. أما عند الحديث عن "المسار العنيف في تشكيل الدولة في أفريقيا" و"هشاشة الدول" من أسباب الانقلابات، فإنه لا يتطرّق إلى سؤال: من هو المسؤول الأول عن هذا؟ وما تأثير ما قامت به القوى الاستعمارية الكبرى التي رسمت الحدود حسب مصالحها وفرضتها بالقوة؟ وما أسباب هشاشة الدول في ظلّ النظام العالمي القائم والسياسات المعتمدة فيه كسياسات القروض والمساعدات والتجارة والعمل وغير ذلك؟
"غياب النمو الاقتصادي الشامل" مسبّب أساسي للانقلابات في رأي تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة
تطرق التقرير كذلك إلى "تاريخ التدخّل العسكري في السياسة"، باعتباره سببا للانقلابات، معتبرا أن الفشل في إصلاح الجيش وغياب الضوابط والتوازنات الواضحة هو سبب هذا التاريخ الطويل من الانقلابات. والحقيقة هناك أسئلة ذات صلة: أليس لهذا التاريخ من أسباب؟ ما تداعيات حقيقة أن انقلابات كثيرة كانت بدعم خارجي، وخصوصا من الولايات المتحدة، وأن كثيرين من القادة الانقلابيين تلقوا تدريبا في الدول الغربية وروسيا؟ وهل لمسألة الإنفاق على الأمن والتسليح الغربي والشرقي علاقة بغرق دول كثيرة في سلسلة خبيثة من الديون والفساد، صارت سلسلة تاريخية مستمرّة منذ الاستقلال؟ ولماذا لا تنجح سياسة المشروطية في أفريقيا إلا نادرا؟ ولماذا لا تؤخذ نتائج دراسات نقدية كثيرة في الحسبان؟ فحسب دراسة استخدمت بيانات من 189 دولة من 1970 إلى 2009، فإن زيادة أعداد الضباط العسكريين المدرّبين من برامج التعليم والتدريب العسكري الدولي الأميركية (IMET) وزمالة مكافحة الإرهاب (CTFP) تزيد من احتمال وقوع الانقلابات.
أما "غياب النمو الاقتصادي الشامل" فهو مسبّب أساسي للانقلابات في رأي التقرير، تتشكّل السياسة والتنمية بشكل كبير من خلال الثروات والموارد الطبيعية، بحيث تُستغل الثروات المعدنية بطريقة تؤدّي إلى نتائج إنمائية ضارّة، وهو ما أسماها التقرير "لعنة الموارد". مرّة أخرى، لا يتطرق التقرير إلى سؤال من هو المسؤول الأول عن هذا؟ ألا توجد "لعنات" أخرى في أفريقيا؟ ألا تستحقّ العلاقات الاقتصادية غير المتوازنة بين دول أفريقيا والدول التي كانت تستعمرها في السابق اهتماما أكبر؟ ولماذا التركيز على دور المؤسّسات الأفريقية في التنمية، بينما لا يُطلب من الدول الكبرى والمؤسّسات المالية الدولية تعديل سياساتها لتكون أكثر انصافا؟
يتطرّق التقرير أيضا إلى أسباب وجود دعم شعبي واضح للانقلابات، بما في ذلك الدول التي أطيح فيها قادة منتخبون ديمقراطيا. ويقرّ بأنه خيبة الأمل من أداء الحكومات المنتخبة ديمقراطيا تدفع إلى دعم أساليب الحكم غير الديمقراطية، بما في ذلك الحكم العسكري. هذا صحيح، لكن هناك صورة أكبر لانقلاباتٍ كثيرة، وغالبا ما تكون الأدوار الإقليمية والدولية حاسمة في نجاح الانقلابات ورسوخ الحكم العسكري. لماذا، إذن، لا يكون التقرير أكثر توازنا ويتناول التدخلات الإقليمية والدولية في دعم أو معاداة فصيل ما وخلط الأوراق على الأرض عبر أجهزة المخابرات والإعلام الموجّه وشراء الولاءات، أو عبر المليشيات المدعومة من دول، مثل الدور الإماراتي في تونس والسودان ومصر، ودور مجموعة فاغنر الروسية في أفريقيا الوسطى والسودان وليبيا وبوركينا فاسو وموزمبيق (ذُكرت المجموعة مرّة واحدة عند الحديث عن مالي)؟
يدعو التقرير إلى إعادة التركيز على التنمية، بما في ذلك الحكم الرشيد والمساواة بين الجنسين والحقوق
مواجهة الانقلابات
يقدّم التقرير مقترحاتٍ تخصّ خيارات السياسات العامة لمنع الانقلابات العسكرية، ومعالجة تداعياتها إذا وقعت. وهنا يدعو التقرير، على وجه الخصوص وبحكم اهتمام البرنامج الإنمائي، إلى إعادة التركيز على التنمية، بما في ذلك الحكم الرشيد والمساواة بين الجنسين والحقوق والحصول على الخدمات الأساسية، مثل التعليم والرعاية الصحية، باعتبار التنمية وسيلة حاسمة ليس فقط لمنع الانقلابات، ولكن أيضا للحفاظ على السلام. أي "التنمية هي الوقاية، والوقاية تعني السلام". لم يتطرّق التقرير إلى سؤال آخر: هل يمكن أن تتم التنمية الشاملة والعادلة في أفريقيا في ظل الروابط أو القيود التي يفرضها النظام الرأسمالي العالمي ومؤسّساته المالية؟ وهل من علاقةٍ بين نجاح التنمية الموصى بها في التقرير وعمليات النهب المنظّم لموارد القارّة التي تقوم بها دول مثل فرنسا؟ وهل يمكن أن تثمر جهود التنمية في أفريقيا في ظل عدم وجود معايير محدّدة وواضحة لحوكمة المساعدات التي تقدّمها الدول الكبرى داخل مؤسّسات هذه الدول ذاتها، والتي عادة تخصّص لمحاربة الإرهاب، وليس التنمية الحقيقية؟
نعم أشار التقرير سريعا إلى أن هذه الموجة تجري في ظل "تعقيد وديناميكية المشهد الدولي، الذي يتميّز بالتقاء غير مسبوق للتحولات الجيوسياسية والتحدّيات الاقتصادية والتقدّم الرقمي والاهتمامات البيئية والديناميكيات الاجتماعية والثقافية"، في إشارة إلى التهديدات والتحدّيات الأمنية، مثل الإرهاب والتطرّف العنيف وتغير المناخ وتأثير الانكماش الاقتصادي العالمي. لكن السؤال هنا: لماذا لم ينعكس هذا مطلقا على المعالجات التي يقدّمها التقرير؟ لماذا تتركّز جُل المقترحات، أو كلها تقريبا، على ما الذي على الأفارقة فعله؟ ألا يمكن أن تتضافر جهود الداخل والخارج للمساهمة في العلاج؟
يرى التقرير أن معالجة الدوافع الهيكلية والمؤسّسية تتضمّن تعميق الحكم الديمقراطي عبر دعم الانتخابات
أشار التقرير إلى "القضايا النظامية طويلة الأجل"، وأورد أن المواطنين المستطلعة آراؤهم اتهموا القوة الاستعمارية السابقة، فرنسا، بالتواطؤ مع "المخالفات الحكومية"، وأن العلم الروسي أصبح "شعارًا شائعًا لمعارضة نفوذ فرنسا المتصوّر". ومع هذا، لا نجد لموقف المواطنين من فرنسا أي صدىً في المقترحات المقدمة من واضعي التقرير تطالب فرنسا بمقترحات سياساتية ما؟ وعند الحديث عن كيفية تأثير الشراكة والتدخّل الدوليين في أفريقيا على الضوابط والتوازنات بين الجماهير والحكومات، أشار التقرير إلى أولويات كلها تُلقي المسؤولية على عاتق أفريقيا، مثل تعزيز آليات الاستجابة القارية والإقليمية، وضرورة تعزيز الاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا قدراتهما في مجال الدبلوماسية الوقائية، والتنسيق الفعّال بين الاتحاد الأفريقي والجماعات الاقتصادية الإقليمية.
وعند حديثه عن منع مزيد من الانقلابات، اقتصرت الأولويات قصيرة ومتوسطة الأجل التي يقترحها التقرير على تعزيز قدرة نظام الإنذار المبكّر والاستجابة الأفريقي، ودعم عمليات الحوار لحل المشكلات بين النخب السياسية والعسكرية، وإعطاء الأولوية للاستثمار في البنى التحتية الوطنية للسلام. وعلى المدى الطويل، يرى التقرير أن معالجة الدوافع الهيكلية والمؤسّسية تتضمّن تعميق الحكم الديمقراطي عبر دعم الانتخابات، وما أسماه التقرير "القيادات السياسية التنموية"، وتعديل برامج الحوكمة لتنشيط الرقابة، وإعادة ضبط استراتيجية العلاقات المدنية العسكرية، وتحسين عمليات إصلاح القطاع الأمني، والتنمية الاقتصادية الشاملة للجميع والحدّ من الفقر. وبرغم أن التقرير يشير إلى تفاقم "أوجه عدم المساواة العالمية والإقليمية والوطنية بسبب العلاقات التجارية غير المتكافئة والمقيّدة"، بيد أنه لا يطلب من الطرف غير الأفريقي القيام بأي شيء لمعالجة هذا الأمر سوى القول "ينبغي إعادة صياغة العلاقات التجارية بين أفريقيا وأوروبا وأجزاء أخرى من العالم لتحقيق أقصى قدرٍ من آفاق التنمية".
في العموم، التقرير مفيد في سماع جانب من أصوات الجماهير، لكنه لا يُمكن أن يُتّخذ مرجعًا لاستيعاب الصورة الكاملة لفهم أسباب الانقلابات في أفريقيا، ولا للاعتماد على ما يقترحه من حلول لقضايا تستحقّ أن تُقدّم لها معالجات تتسم بقدر أكبر من العمق والشمول.