انفجار مرفأ بيروت والذاكرة الكارثية
شهد مرفأ بيروت في الرابع من شهر أغسطس/ آب 2020 انفجاراً ضخماً هزّ أركان المدينة، وخلّف خسائر بشرية ومادية كبيرة، وآثاراً اقتصادية واجتماعية وسياسية، فقد تسبّب الحادث في مقتل مائتي شخص، وجُرح نحو 6500 شخص، بينهم ألف طفل. وقالت منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسف) حينها إن أكثر من عشرة آلاف طفل لبناني أصبحوا نتيجة الانفجار بلا مأوى، وعاشت أسرهم ظروفاً قاسية مع انقطاع الكهرباء والمياه، فيما تعرّضت آلاف من المباني السكنيّة والمحال إلى التدمير الكلّي من شدّة الانفجار. ولولا أن سبقت رحمة الله لما بقي على الأرض في بيروت شيء.
لاح للبنانيين الموت فيما أصابهم، ودخلوا في أزمات مترابطة، انعكست مزيداً من الفوضى في إدارة العديد من الملفات السياسية والاجتماعية والقضائية والبيئية، مع تسرّب مواد كيماويّة خطيرة إلى الهواء، وتراكم أكثر من 800 ألف طن من حطام المباني والزجاج على الأرض. كان ما شهده لبنان كارثة حقيقية في أعقاب الحراك الشعبي الذي شهدته البلاد منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2019، فحاصرت نيران الانفجار شعارات المواطنين الغاضبين ضد النخب السياسية ومطالبهم واحتجاجاتهم ضد هؤلاء، وهي تدعو إلى المحاسبة ومحاربة الفساد، وبناء مؤسّسات دستورية، وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية. وكان ثمّة من يريد صرف انتباه اللبنانيين عن الوضع الداخلي في ظرفٍ شهد اقتصاد لبنان السقوط الحرّ. وقدّر البنك الدولي الخسائر التي تسبب بها الانفجار ما بين 3.8 مليارات دولار و4.6 مليارات دولار، مع إعلان حاجة لبنان إلى مساعدات دوليّة واستثمارات مختلفة.
لم يستجب اللبنانيون لنداءات العالم بعد كل الذي شاهدوه وعاينوه، وما انسحبوا من كل ما مرّ عليهم من ويلات، وسخروا أكثر من أنفسهم، وسخر العالم منهم، ومن غلوائهم (يتفاخر أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، بانقضاء أيام الذلّ، ويعطي الانطباع المستمر بأن إيران ومليشياتها وصلت إلى قوة غير مسبوقة، في وقت يموت لبنان، والغموض يلفّ مسألة إنقاذه، وهو يعيد التعرّض مجدّداً إلى الأوضاع في اليمن والبحرين وسورية)، فيما أحكام الحاكمين بقيت أسيرة عبارة رئيس الجمهورية السابق ميشال عون: "لبنان ذاهب إلى الجحيم"، ولم يستقيلوا من جميع الشؤون العرضية.
أصبحت بيروت، منذ سنوات، مؤشّراً على سوء الأحوال في منطقة الشرق الأوسط، ولعدم الاستقرار
تتداول وسائل الإعلام مجدّداً صور الانفجار، ويحتشد أهالي الضحايا المعذّبين/ المساكين، رافعين صور أبنائهم وأسمائهم، أمام قادة سياسيين جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستكبروا على الحدث، وشلّوا عمل قاضي التحقيق العدلي طارق البيطار. والتحقيق انتهى عملياً في اليوم الثاني من زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون لبنان، إذ يعتبرها بعضهم أنها جاءت خدمة لأغراض من تسبّب بانفجار المرفأ، ومدّد فيها للسياسيين اللبنانيين، ومدّدت لهم الانتخابات أسباباً لبقائهم متلبسين بالجريمة (وجرائم أخرى)، في إدخال كميات هائلة من المواد الكيماوية (جرى الكشف عنها في عام 2018، وتفجر منها حوالي 2750 طناً من مادة نترات الأمونيوم).
ثلاث سنوات أمام هول الحدث، عبّرت دول كثيرة عن تضامنها مع الشعب اللبناني، وقدّمت مساعداتٍ إنسانية كثيرة من كل أرجاء العالم، ومثّل الحدث فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار للدولة ومؤسّساتها، وتفعيل لقضاء مستقل، قادر على تحقيق العدالة، ويتمتع بثقة المواطنين والعالم، لإرساء دعائم دولة مدنيّة حقوقية/ إنسانية. النتيجة عدم استيعاب الدّرس، وهم (السياسيون) على سعيهم في التعطيل، بما كانوا يعملون، ويعرضون عن الحلول السياسية، فتأتي لبنان الأزمات من كل صوب. الفاعل السياسي اللبناني بمكوناته المختلفة لم يستوعب بعد دروس الكارثة، وسط محاولات الأهالي الدفع نحو إجراء تحقيق دولي مستبعد، (شارك نحو 150 خبيراً من فرنسا والولايات المتحدة وتركيا وروسيا، وفرق إنقاذ تشيكية ويونانية وهولندية وبولندية في عمليات البحث في المرفأ)، ضمانة للكشف عن الحقيقة، وتوفير سبل الإنصاف، وتقديم التعويضات للضحايا.
لا بنى تحتية بعد سنوات على الإعمار، ولا مساحات خضراء، ولا كهرباء، ولا هواء نظيفاَ، ولا أي من شروط الحياة السوية السعيدة في بيروت
أصبحت بيروت، منذ سنوات، مؤشّراً على سوء الأحوال في منطقة الشرق الأوسط، ولعدم الاستقرار، تتأثر ولا تؤثر فيها، عنواناً للضياع والفوضى، في ظل انسداد الأفق السياسي الذي يصعب تجاوزه، وتعطل عمل المؤسّسات وبنية الحكم نفسها. كان انفجار مرفأ بيروت (ليس مجرد ميناء على شاطئ المتوسط، بل هو رمز لحقبة غنيّة من تاريخ لبنان والمنطقة، وعوامل ازدهارها التجاري والاقتصادي والمالي بين شرق المتوسط وغربه)، تجسيداً لفشل هذه الدولة بكل مكوناتها. وهو ما استدعى تحرّك الدبلوماسية الفرنسية بديناميتها العاطفية المألوفة، على طريق الحدّ من التداعيات السياسية والاقتصادية، متصلة أيضاً بحاجة فرنسا إلى لبنان للعب دور وسيط في إطار الصراع القائم بين القوى الدولية والإقليمية في منطقة تشهد تحوّلات حيوية. ولكن ليس كما كان يعتقد. هي فرنسا ماكرون من فشل إلى آخر (النيجر). ثمّ أن يكون اللبنانيون أكثر الشعوب تحسساً للخطر الوجودي على كيانهم. هذا لم يحدث، ما كان ليولد فرصة تاريخية، وينمو ما ينقذ لبنان. لا أحد يقوم بعمله في لبنان. الحكومة ليست حكومة، والنواب ليسوا نواباً، والأحزاب ليست أحزاباً، والمدينة ليست المدينة، والمصرف المركزي ليس مصرفاً، وحاكمه يغادره محاصراً بالتحقيقات في أوروبا بتهمة اختلاس وغسل أموال، ومستهدفاً بمذكرتي اعتقال دوليتين من فرنسا وألمانيا. يغادر منصبه بعد ثلاثين سنة، في إشارة أخرى إلى نهايةٍ رمزيةٍ للحريريّة السياسية، وإلى عهد رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري الذي بنى بيروت (أغلى المدن حالياً لجهة أسعار المواد الغذائية والسياحة والرفاهية والمطاعم والمقاهي، مقارنة بمثيلاتها في باريس ولندن)، وحيث لا بنى تحتية بعد سنوات على الإعمار، ولا مساحات خضراء، ولا كهرباء، ولا هواء نظيفاً، ولا أي من شروط الحياة السوية السعيدة فيها!
لبنان لا يزال يعيش على وقع الانفجار الهائل، وسلسلة انفجارات تردّدية مالية وسياسية وأمنية بعيدة المدى
تحوّل الانفجار إلى ما يشبه لوحة "غرنيكا"، وضع فيها المتطوّعون الشباب، الذين نزلوا إلى الشوارع لتنظيف آثار الدمار، كل الرموز الدرامية من أموات وأشلاء طائرة ومشظّاة، ومن لحم ودم، وألواح زجاجية مكسورة، وعصف مبهم وجحيم. تحتاج إعادة إعمار المرفأ إلى أكثر من ثمانية مليارات دولار، وسط تنافس دولي لاستثمار جيوسياسي، بهذا الاتساع أو ذاك. لكن لبنان لا يزال يعيش على وقع الانفجار الهائل، وسلسلة انفجارات تردّدية مالية وسياسية وأمنية بعيدة المدى.
قد يكون انفجار الصراع في مخيم عين الحلوة الفلسطيني من تلك السلسلة الكارثية، على خلفية أوضاع إقليمية مقبلة، على الأرجح من تفاصيلها التصويب على حركة فتح ومحيطها السنّي في لبنان، ووضع المخيّمات تحت سيطرة الثنائي الشيعي، والنفاذ في سياسات ترسيم الحدود البحرية والبرّية. وفيما الحرائق تشتعل في المخيم المكتظ بالمدنيين، يلفّ الغموض عمل "خماسية الدوحة" المعنيّة بإنهاء الشغور الرئاسي في لبنان، والبحث عن آلية تطبيق المبادرة التي طرحها الموفد الفرنسي الرئاسي، جان إيف لودريان، لعقد "طاولة عمل"، بين الأفرقاء اللبنانيين، من أجل مناقشة بند انتخاب رئيس الجمهورية، والبحث عن السحر الذي سيؤدّي إلى الاتفاق على اسم الرئيس المقبل.
اللبنانيون "سكارى وليسوا سكارى"، يريدون العيش بعد كل ما حدث ويحدث.