انخلي يا هلالة..

08 مايو 2016
+ الخط -

يُذَيِّلُ شقيقي دريد تعليقاته الفيسبوكية بالعبارة الشعبية التهكمية: انخلي يا هلالة.. وذات يوم وَجَّهَ إليه أحدُ متابعيه سؤالاً عن أصل العبارة، فقال: والله، لا أعرف. ثم اتصل بي عبر خدمة الفايبر، وطلب مني أن أشرح له معناها، لكي يتخلص من هذا الإحراج أمام متابعي صفحته.

قلت له: اسمع. حينما يُفَاجَأ الإنسان الإنجليزي بموقف عظيم، وغير متوقع، فإنه يهتف: (Oh, my God). والتركي يقول، في لحظات الدهشة والاستنكار (الله الله)... وأما السوري فيمتلك قاموساً غنياً بالعبارات التي تُقال في مثل هذه اللحظة، مثل: يا حبيبي.. أو يا حَلَوْلَوْ، أو اخرطي، أو انخلي يا هلالة. ومن أقوال أهل حلب التهكمية، بحسب ما روى العلامة خير الدين الأسدي في موسوعة حلب المقارنة: خُذْ من هذا الجُبْن الإعزازي وسَيِّخْ.

ولا شك في أن الثورة السورية قد أصبحت، منذ الأسابيع الأولى لانطلاقها، أمَّ الغرائب والمفاجآت. فمثلاً، كان السوريون ينتظرون موقف الأمم المتحدة من المجازر التي ارتكبها ابنُ حافظ الأسد ومخابراتُه بحقهم، معتقدين أنها ستَغْضَبُ لأجلهم، وتشكل تحالفاً دولياً ضارباً، وتُفَعّل الفصل السابع من ميثاقها، ثم تُسَيِّر الأساطيل الجوية لتدكّ عرشه، وعرش والده في قبره... لكنهم فوجئوا بالسيد بان كي مون يطل عليهم ليُبلغهم أنه يشعر بالقلق حيال ما يجري في بلادهم... وإذا بصيحات الاستهجان تندّ عنهم، ويعلق بعضُهم بالقول: يا حلَوْلَو، يشعر بالقَلَقْ؟ فإذا أبادنا الأسد عن بكرة أبينا، فربما يشعـر بالـمغـص

قال دريد: دعنا في حكاية هلالة.

قلت: حسناً. كان السيد عمران، الذي يُدلعونه عَمّوري، قد أودع في سجن تدمر بثلاث تهم رئيسية، السرقة وتعاطي الحشيش والاتجار بالحشيش. وحينما خرج من السجن، بعد انقضاء مدة حكمه، قرّر أن يغسل ذنوبه كلها، ويتفرغ لهداية الناس، وإرشادهم إلى طريق الحق والفلاح، فاشترى كومبيوتراً وهاتفاً محمولاً، وحَوَّلَ الغرفة القريبة من باب داره إلى مكتب سماه "ديوان التقوى"، وصار يقدّم للناس فتاواه مجاناً... وفي ليلةٍ خاليةٍ من ضوء القمر، جاءت دورية من الأمن الجوي، وشحنته إلى دمشق، ثم إلى تدمر، لكنه هذه المرة لم يُزْرَبْ في جناح السجناء الجنائيين، المجرمين، بل في جناح السياسيين.

في بداية الثورة، أَطلقت القيادةُ الحكيمة سراحَه، فذهب إلى بلدته، وأراد أن يشتري قطعة سلاح، ليحارب النظام الذي سجنه مرتين، في مكانٍ هو الأشد حقارة في العالم، لكنه لا يمتلك ثمن بندقية، فذهب من توه إلى قائد كتيبة الجيش الحر في البلدة، فرفض تسليحه، بسبب ماضيه الجنائي، فما كان منه إلا أن عاد إلى السرقة، وسَطَا على أكياس من الطحين، اشتراها أحد وجهاء البلدة، لكي يوزعها على الفقراء الذين ساءت حالتُهم، بسبب ما يجري في البلاد.

فَرِحَتْ زوجتُه، السيدة هلالة، بعودته إلى عالم السرقة الذي يدرّ على ممتهنيه أموالاً طائلة، وسرعان ما فتحت أحد الأكياس، وأحضرت المنخل، بقصد أن تنخل بعض الطحين لأجل الاستعمال الفوري. ولكن، فجأة، قُرع الباب الخارجي، فأوعز لها أن تمتنع عن نخل الطحين، ليرى ما يحدث. وفتح الباب، وإذا بصاحب الطحين ومعه مجموعة من المسلحين، أتوا على أثر نبأ جاءهم به رجل من البلدة، يقول إن عموري هو الذي سرق الطحين.

تَعَوَّذَ عموري بالشيطان الرجيم، وحوقل، وتلا على أسماع ضيوفه الآية القرآنية التي تعتبر الظنَّ بالناس إثماً، والآية التي تطلب من المؤمنين أن يتحقّقوا من صحة الوشايات، ثم أبدى استعداده أن يحلف على القرآن الكريم بأنه لم يسرق الطحين.

قال صاحب الطحين: حسناً احلفْ، ونحن نقبل.

تهلل وجه عموري، عندما وجد أن المسلحين سيكتفون باليمين الكاذبة، وبعدها سيصبح الطحين ملكه، واستأذن ضيوفه، ومدّ رأسه إلى أرض الديار، وصاح: انخلي يا هلالة.    

  

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...