انتهى الدرس يا ذكي

21 اغسطس 2016
+ الخط -

الميزة الرئيسية التي يجتمع حولها القادةُ التاريخيون (العِظام)، مِنْ عُرْبٍ ومن عَجَمٍ، هي المحبة الغامرة التي يكنها لهم الرجالُ الذين يجلسون في الصفوف الأخيرة من قاعة الخطابات. لا عمل لهؤلاء، في الحقيقة، غير أن يُبقوا آذانَهم مشدودةً، مثل آذان الأرانب، وأعينَهم متعلقة بشفاه الزعيم، حينما يخطب، فما إن يقول جملةً متوهجةً متألقة، حتى يبدأوا التصفيق والهتاف وإلقاء العبارات الحماسية المسجوعة، ويردّدونها مراتٍ ومرات، بينما الزعيم محتارٌ في أمره؛ هل يتابع خطبته، أم ينتظر حتى يفرغ هؤلاء الإمَّعات التافهون من ترداد أساجيعهم الغليظة؟... وأحياناً، يضحك الزعيم من هذه "العصلجة"، فيضحك كلُّ مَنْ في القاعة، وحتى الأهالي الذين يتفرّجون على هذا البث المباشر في بيوتهم، يضحكون، أو لعلهم يضطرون للضحك من شدة سخافة المشهد.

كنت قد حدّثتكم، في مقالتي، الأسبوع الماضي، بالقصة الكاملة لحادثة (طز بأمريكا) التي رواها لي الفنان المهندس ماهر حميد. وأزيدكم اليومَ من القصيد نفسه بيتيْن، فالصديق ماهر زَعَمَ، أيضاً، أن القائد معمر القذافي، قبل أن يذهب لزيارة تونس، يوماً من سنة 1972، كان يتحدّث، إلى شَعبه الذي يحبه إلى درجة العشق، عمّا توصل إليه من اكتشافاتٍ ذات أهمية قصوى، منها أن المرأة الحامل قد تلد صبياً، وقد تلد بنتاً، وقد تلد توأمين صبيين، أو توأمين بنتين، أو صبياً وبنتاً، فقاطعه الواقفون في الصفوف الخلفية بعاصفةٍ مدوية من التصفيق، وهتف أحدُهم بأنه وقبيلته سيبايعونه، بعد هذا الكلام، إلى الأبد، فلا يرضون برئيس للجماهيرية العربية الاشتراكية الليبية في قابل الأيام سواه... وحينما وصل العقيد، في خطابه، إلى عبارة طز بأمريكا، قاطعه سكانُ الصفوف الخلفية مرة أخرى، وبدأوا ينشدون: طز مرة تانيا، بأمريكا وبريطانيا، وظلوا يردّدونها حتى انفلت سيادته بالضحك، وانفلتت القاعة، إثرها، بالضحك.

أما زيارته إلى تونس، فكانت ذات أهمية قصوى، لأنها قللت كثيراً من أهمية اكتشافاته العلمية، المتعلقة بمعرفة جنس الجنين قبل اختراع الإيكوجراف، وتأكيده ع أن الرجل لا يحيض بينما المرأة تحيض... فقد جاءت في وقتٍ كان الزعيم التونسي، الحبيب بورقيبة، يعاني من تعطل سخان الماء في القصر الجمهوري، ويكتشف أنه لا يوجد في تونس، ولا في ليبيا، ولا في دولٍ عربية كثيرة، مَن يعرف كيف يكونُ تصليح السخان، غير الذين اخترعوه، يعني الأوروبيين.

وكان بورقيبة يُصغي إلى المذياع، وسيادة العقيد ما ينفكّ يتحدث عن الصهيونية، والبورجوازية، والرجعية، والإمبريالية، وأذناب الاستعمار، مبشراً بالوحدة العربية الكبرى التي ستمتد من المحيط إلى الخليج، وإذا به يذهب إلى قاعة المؤتمرات، ويطلب من ضيفه الكريم القذافي، أن يجلس جانباً، ثم يرتجل درسه الشهير، الذي عُرف لاحقاً باسم (درس البالماريوم)، متحدّثاً، بهدوء، عن ضرورة بناء الوطنية، والدخول إلى عقول البشر، وإصلاحها. وقال إنه استلم السلطة هنا في تونس بشكل طبيعي، وليس نتيجة انقلاب عسكري، وإنه ذهب إلى فرنسا ومكث فيها ثلاث سنوات، حتى فهم، وتَعَلَّمَ كيف تُبنى الأوطان، وتُدار الدول، وعاد بعقليةٍ جديدةٍ، وفَهْمٍ جديدٍ للحياة.

وتحدّث، كذلك، إن الدول العربية التي يريد العقيد توحيدها بدقيقة، وبجرّة قلم، أو بنزوة رئيس أو أكثر، فيها فروق هائلة في مستويات التحضّر، ففي الدولة الواحدة ثمّة بلاد تفصلها عن بعضها صحارى وكثبان، وأناس خبروا الحضارة وشاركوا في بنائها، وأناسُ لا يعيشون في عصر نوح، وآدم. فيا سيادة العقيد، أرجوك أن تدرك أن على كل دولةٍ في هذا العالم أن تعرف حجمها، وأن على كل رئيسٍ أن يعرف إمكاناته وإمكانات دولته، فلا يدعم جماعةً هنا، وتنظيماً هناك، ويطالب بالوحدة العربية، قبل بناء المواطنة والوطن والوطنية.

وقال أيضاً: أنت تقول طز بأمريكا، وأمريكا (قادرة باش تعطيك طريحة).

يا له من درس عظيم.

 

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...