انتقاد الرئيس في مصر جريمة إرهابية
لم يجرِ ابتذال استخدام قوانين مكافحة الإرهاب بعيداً عن أهدافها مثلما هو الحال في مصر خلال العقد الأخير. بمراجعة الاتهامات الموجّهة إلى آلاف من المصريين خلال السنوات القليلة الماضية، يمكن الحديث عما يمكن اعتبارها هستيريا توجيه اتهامات "الانتماء لجماعة إرهابية" و"نشر أخبار كاذبة". أصبحت قرارات الاتهام والحبس المستندة إلى هذه الاتهامات تُكتب علي بياض وتنتظر فقط اسم صاحبها. اتسع اتهام الإرهاب كثيراً في السنوات الأخيرة ليطاول من يعارض ومن ينتقد الرئيس أو ينتقد أداء الحكومة الاقتصادي، أو أداءها وقت جائحة كورونا، أو من يمارس نشاطا حقوقيا، أو يعقّب على أحكام القضاء، أو يمارس مهنة المحاماة أو ينتمي لحزب سياسي شرعي أو غير شرعي. تم القبض، الأسبوع الماضي، على الطبيب والخبير التسويقي، هاني سليمان، وايداعه في سجن أبي زعبل. ثم أمرت النيابة بحبسه 15 يوما على ذمة القضية رقم 508 لسنة 2023 في اتهامات "نشر أخبار كاذبة"، و"الانضمام لجماعة إرهابية وتمويلها". جرى اعتقال سليمان مباشرة إثر تدوينة كتبها على صفحته على "فيسبوك"، تطرح تساؤلات بشأن السلطات المطلقة لرئيس الدولة في مصر، واستحالة محاسبته بالمقارنة مع بلدان أخرى في العالم مثل فرنسا.
لمصر سجل تاريخي طويل في تجريم المساس بالحاكم، يعود إلى قوانين العقوبات الصادرة منذ 1876. يرصد المؤرّخ يونان لبيب رزق، في كتابه "العيب في ذات أفندينا"، تطوّر تجريم انتقاد الحاكم في مصر على مدار تغيير ألقاب هذا الحاكم من أفندي إلى خديوي إلى ملك ثم إلى رئيس جمهورية. اختلفت الألقاب وغادر الاستعمار وبقيت السمة الأبوية لهذا المنصب، وما يُحاط به من جدار عازل. وكان الرئيس المؤقت عدلي منصور عدّل قانون العقوبات في أغسطس/ آب 2013 لإلغاء عقوبة الحبس في جريمة إهانة رئيس الجمهورية، والاقتصار على التغريم المالي لمن يُدان بهذه الجريمة المبهمة. ولم يكن لهذا التعديل أهمية كبيرة في دولة تتسم بنيتها التشريعية بتنوّع (وتشعّب) النصوص القانونية التي يمكن استخدامها من جانب السلطة لتقييد حرية الرأي والتعبير.
وفي ظل حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي أصبح الانتقاد السياسي والإعلامي لرئيس الجمهورية يدخل أيضاً في عداد الجرائم الإرهابية، وهو ما لم يكن يصنّف كذلك على مدار تاريخ استخدام جريمة إهانة رئيس الجمهورية. أكثر من شخصية عامة تم اعتقالها في السنوات الأخيرة على خلفية انتقادات وجهتها بشكل مكتوب لرئيس الجمهورية في مناسبات مختلفة ثم اتهامهم بنشر أخبار كاذبة والانتماء لمنظمة إرهابية.
مصداقية المعركة الحقيقية على الإرهاب وجدّيتها هما الخاسران الأكبران من استسهال اتهام الناس بارتكاب جرائم إرهابية لا سند قانونيا له لمجرّد التعبير عن رأي مخالف
ليس استخدام قوانين مكافحة الإرهاب في غير موضعها جديداً في مصر، وبدأ منذ تبنّي هذه القوانين في تسعينات القرن العشرين. ومن القضايا الشهيرة وقت حكم الرئيس السابق حسني مبارك كان اعتقال الحقوقي حافظ أبو سعدة واتهامه، ثم محاكمة الأكاديمي سعد الدين إبراهيم وبعض أعضاء مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية بواسطة أوامر عسكرية صدرت في إطار حالة الطوارئ في سياق المواجهة مع الجماعات الإرهابية، والتي كانت تحظر تلقي تبرّعات مالية من دون الحصول على ترخيص. ومنذ عام 2015 أصدرت حكومة السيسي سلسلة مغلظة من القوانين والتعديلات القانونية لمكافحة الإرهاب، وتنظيم وضع الأفراد والكيانات على قوائم الإرهاب، بحيث أصبح الإطار القانوني لمحاربة الإرهاب بموجب هذه القوانين أشبه بتطبيق دائم للتدابير الاستثنائية التي تفرض في حالات الطوارئ المؤقتة. وقد قضى آلاف من النشطاء السياسيين والإعلاميين والحقوقيين والأكاديميين شهوراً أو سنوات في الحبس الاحتياطي طبقاً لهذه القوانين باتهام الانتماء لجماعة إرهابية، وجرى تجديد حبس كثيرين منهم في قضايا جديدة بالاتهامات نفسها، إذا ما جرى إخلاء سبيلهم بواسطة القضاء. وقد عبرت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في ملاحظاتٍ قدّمتها للحكومة المصرية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 عن قلقها البالغ من الآثار الكارثية لسياسات وتشريعات مكافحة الإرهاب على وضع حقوق الإنسان، خصوصا في تبنّي تعريف واسع جداً وعام للإرهاب، من شأنه زيادة عدد الأفعال التي تخضع للتجريم والعقاب الذي يصل، في أحيانٍ كثيرة، إلى الإعدام. وما يزيد عبثية هذا المشهد أن تلك الحكومة التي تنتهج تلك التجربة الفريدة في الظلم المنهجي باسم الحرب على الإرهاب ستتولى في الشهر المقبل (مايو/ أيار) رئاسة المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب بشكل مشتركٍ مع الاتحاد الأوروبي.
مصداقية المعركة الحقيقية على الإرهاب وجدّيتها هما الخاسران الأكبران من استسهال اتهام الناس بارتكاب جرائم إرهابية لا سند قانونيا له لمجرّد التعبير عن رأي مخالف.