انتفاضة فلسطينية جديدة

01 نوفمبر 2022
+ الخط -

واحدة من أهم المؤشّرات التي جاءت بها ولادة مجموعة "عرين الأسود" العابرة للفصائل أن تحدّي الاحتلال يلاقي تأييداً واسعاً بين الفلسطينيين، ما يعني أن الوضع الفلسطيني أصبح جاهزاً ذاتياً إلى حد ما لانتفاضة جديدة في مواجهة الاحتلال، فقد عرفت هذه المجموعة من الشباب المدركين للواقع الفلسطيني اليوم أن العمل الجماعي هو الوسيلة المناسبة لإقلاق الاحتلال الإسرائيلي من مقاومةٍ متصاعدة. وبدل أن تعمل هذه المجموعات في مواجهة بعضها بعضاً، وضعت جانباً الخلافات الداخلية التي شغلت الفصائل خلال السنوات الأخيرة.
تعيش الحالة الفلسطينية عوامل موضوعية داخلية تدفع إلى انفجار انتفاضة جديدة، لقد كُتبت مقالاتٌ كثيرة، فلسطينياً وإسرائيلياً، تتنبأ بانتفاضة جديدة، لأنّ الاحتلال بوصفه انتهاكاً للقانون الدولي ولحقوق البشر أفراداً وجماعات، يستدعي بالضرورة مقاومة من الشعب الذي يقع تحت الاحتلال. الحالة الفلسطينية بوصفها حالة احتلال استثنائية معقدة وطويلة، تجعل ضرورة مقاومته مسألة وجود سياسي وتاريخي، إذ مهمة الاحتلالٍ الرئيسية إلغاء الشعب الفلسطيني. 
أسباب الانتفاضة القادمة قائمة موضوعياً، وأساسها طبيعة الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يريد الاعتراف بأيّ حقوق للفلسطينيين، وباستثناء فترةٍ ساد فيها بعض الأمل الوهمي بإمكانية إنجاز سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد مؤتمر مدريد في العام 1991 وبعد اتفاقات أوسلو الانتقالية، والتي لم تؤدِّ إلى أي حلٍّ نهائي منتظر، بل على العكس تدهور الوضع في الأراضي الفلسطينية، وصولاً إلى الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2001. كان من الطبيعي في ظلّ السياسات القمعية للاحتلال التي وَلّدت مقاومة فلسطينية، توجت بانفجار انتفاضتين شعبيتين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي (1987، 2000) على اختلاف طبيعة الانتفاضتين. كما أنّ العوامل ذاتها ما زالت قائمة، والممارسات القمعية الإسرائيلية ما زالت على حالها، حتى أنّها تتوسّع في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية، وستكون أسوأ مع الحكومة الإسرائيلية التي ستسفر عنها الانتخابات الإسرائيلية اليوم الثلاثاء. وهو ما سيزيد من سياسات التوسّع الاستيطاني، إلى تقطيع الأرضي الفلسطينية وتحويلها إلى معازل، والضغط على الأماكن المقدسة في القدس القديمة من خلال انتهاكات المستوطنين والتضييق والحصار والمنع، إلى جدار الفصل العنصري، إلى سياسات هدم المنازل، إلى عمليات الاعتقال، إلى تحويل حياة الناس إلى جحيم على مئات الحواجز الإسرائيلية المنتشرة في الضفة الغربية... إلخ. من الممارسات الإسرائيلية القمعية التي تترافق مع إغلاق إسرائيل باب المفاوضات السياسية نهائياً أمام حل تفاوضي يقرّ بالحقوق الفلسطينية، مع تأييد أميركي لهذه السياسات والانسحاب من أي جهود لإحياء عملية السلام الميتة.

كل الأسباب الموضوعية لانتفاضة فلسطينية جديدة موجودة اليوم وسياسات الاحتلال تدفع إلى انفجارها

أغلقت السياسات الإسرائيلية للحكومات المتعاقبة خلال العقود الثلاثة المنصرمة كلّ الأبواب أمام المفاوضات وحوّلتها إلى عملية عبثية. ترافق هذا مع الانزياح الثابت للشارع الإسرائيلي باتجاه اليمين، وهو ما أحدث يأساً في الأوساط الفلسطينية في إمكانية الوصول إلى حلٍّ ما للقضية الفلسطينية، بصرف النظر عن إجحافه بحق الفلسطينيين.
كل الأسباب الموضوعية لانتفاضة فلسطينية جديدة موجودة اليوم وسياسات الاحتلال تدفع إلى انفجارها. وكل الصدامات مع الاحتلال الإسرائيلي التي جرت في الأشهر الأخيرة تشكل تمريناً نضالياً على انتفاضة طويلة في مواجهة الاحتلال.
وإذا كانت العوامل الموضوعية لانفجار انتفاضة فلسطينية ثالثة قائمة منذ زمن طويل، فإن الأشهر الأخيرة تقول إن العامل الذاتي بات ناضجاً ومتجاوزاً عطالة الفصائل التي باتت عبئاً على النضال الفلسطيني، وأي نجاح لانتفاضة جديدة لا يمكن أن ينتظر جاهزية الفصائل التي لا تصلح للمهمة. ومن جهة أخرى، لا يمكن أن تكون هناك انتفاضة جديدة من دون أن تقف الفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها السلطة الفلسطينية، على الحياد، وألا تعمل على وضع العقبات أمام أشكالٍ نضالية جديدة، يمكن أن يبتدعها المناضلون في الميدان.
رغم نضج العوامل الموضوعية والذاتية الفلسطينية، قد تجعل الأوضاع المعقدة المحيطة بالوضع الفلسطيني انتفاضة فلسطينية جديدة أكثر صعوبة. واحدة من الأوضاع المعقدة، أن عبء الانتفاضة الفلسطينية سيكون على عاتق سكان الضفة الغربية والقدس، في ظل خطوط تماسّ قصيرة للمواجهات من الاحتلال، حيث تحاصر حواجز الجيش الإسرائيلي التجمّعات الفلسطينية من خارجها، ما يُصعّب الوصول إلى قوات الاحتلال وحواجزها والاصطدام معها.

هذا الانشغال للعالم بحرب تهدّد بانتقالها إلى حرب نووية، يجعل الموضوع الفلسطيني ثانوياً بالنسبة للاهتمام الدولي بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي

إذا كان هذا على المستوى الفلسطيني الداخلي، فهناك عاملان محبطان آخران يحيطان بالوضع الفلسطيني، أحدهما إقليمي وآخر دولي... الإقليمي هو حالة التطبيع لبعض الدول العربية مع إسرائيل، التي فكّت ارتباط تطبيعها مع إسرائيل مع الوصول إلى حلّ للقضية الفلسطينية، وباتت تقيم هذه العلاقات مع إسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية. ويتعلق العامل الدولي بانشغال العالم بالحرب الروسية ـ الأوكرانية، في وقتٍ يفضح فيه موقف الدول الغربية من الاحتلال الروسي لأوكرانيا ازدواجية المعايير والزيف الغربي تجاه قضايا احتلالٍ أخرى، مثل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فإنّ الدول الغربية التي تدعم المجهود الأوكراني لدحر العدوان الروسي، هي في الحالة الفلسطينية داعم لدولة الاحتلال، ولا ترى أي حل للمشكلة مع الفلسطينيين سوى بالمفاوضات التي تعطّلها إسرائيل من دون أن يفعل العالم أي شيء تجاهها. وفي كل الحالات، هذا الانشغال للعالم بحرب تهدّد بانتقالها إلى حرب نووية، يجعل الموضوع الفلسطيني ثانوياً بالنسبة للاهتمام الدولي بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، فكلّ التركيز الدولي ينصبّ على الحرب الروسية ـ الأوكرانية.
تعمل إسرائيل على استثمار الشروط السيئة التي يمرّ بها الفلسطينيون من أجل تكريس مزيد من سياسات القضم والتضييق عليهم، في ظل انشغال دول العالم بقضية بعيدة عن الصراع. لكنّ هذه السياسات التي تنصبّ على رأس الفلسطينيين، وتجعل أوضاعهم أسوأ، تدفعهم إلى الانفجار للمطالبة بحقوقهم، حتى لو لم تكن الشروط القائمة مثاليةً من أجل الانتفاض في وجه الاحتلال، ففي لحظةٍ، ولو كانت غير مواتية، على الفلسطينيين أن يقولوا: لا للاحتلال المرّة بعد المرّة وفي كلّ الشروط.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.