انتفاضة السويداء ومسألة النموذج
انتقلت الانتفاضة في محافظة السويداء سريعاً إلى إسقاط النظام. لم يمض على بدايتها أسبوعاً حتى أَغلقت أبنية حزب السلطة في بلداتها كافة، وحدّدت ساعات معيّنة للعمل في مؤسّسات الدولة. وامتدت الانتفاضة إلى أغلبية بلداتها وقراها؛ وبالتالي، فرضت سلطتها الكاملة، ولم يعُد للنظام إلّا بعض الدوائر، ولكنها تعمل بإشراف لجان الانتفاضة؛ حتى الدوائر الأمنية والعسكرية أصبحت في حالة عطالة كاملة، وقد تنسحب في الأسابيع المقبلة.
عمّت انتفاضة السويداء، وهي تتوقّع الانتقال إلى بقية المحافظات، حيث الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية منهارة أيضاً، والسلطة في حالة عزلةٍ إقليمية ودولية، وليس من تغييرٍ لهذا الواقع. تعثّرت الانتقالة إلى مناطق سيطرة النظام، وتحديداً في الساحل؛ فإذا تعامل بلينٍ مع السويداء، فقد تشدّد أمنيّاً مع نشطاء الساحل واعتقل بعضهم، وأطلق النار في درعا وفي حلب، وراح شبّيحته يستعرضون القوّة والطغيان عبر مسيرةٍ هزيلةٍ وهزلية بسياراتهم الفارهة.
عدم تمدّد الانتفاضة سيسمح للنظام بوضع الخطط لتركيع المحافظة من جديد. صحيح أنّه في حالة ضعفٍ شديدةٍ، ولكن عدم حدوث الانتفاضات في بقية المدن سيتيح له الاستفراد بها، ولن يعدم وسائل كثيرة من الضغط، بعد اللين؛ وقد بدأ عبر تقسيم مشيخة العقل بين مؤيدٍ للثورة، وهو الشيخ حكمت الهجري، ومؤيدٍ للنظام هو يوسف جربوع، والثالث بين بين، الشيخ حمود الحناوي، وللثلاثة أنصار، وإن راحت كتلة جربوع تتراجع بشدةٍ.
تبدو المحافظة بحالة إشكالية؛ فهي لن تتراجع عن انتفاضتها، ولكنها قد تختنق اقتصادياً، وفي حال لم يَستخدم النظام الخيار العسكري لن تتورّط هي بالاندفاع نحوه. ولكن، وفي حالة التورّط، ستتحول الانتفاضة، حينها، إلى مسلّحة، ليس في السويداء فقط، بل في أيّة أمكنة، يوجد فيها أفراد من الطائفة الدرزية، وحينها ستمتدّ الانتفاضة إلى جرمانا ومنطقة حضر وصحنايا والأشرفية في أرياف دمشق؛ حينها أيضاً، ستُستثمر كل الرموز الخاصة لهذه الطائفة، لتحشيد القوّة ضد النظام.
يعي النظام جيداً خطورة هذا الخيار ومآلاته، ولكن عنجهيّته، ومعه إيران وحزب الله، قد تورّطهم، وحينها فعلاً سيسقُط لا محالة، سيما أن خطاب الانتفاضة وطنيّ وليس ضد العلويين، ولا ضد أيّة طائفة، وهذا سيدفع بكتلٍ سكانيةٍ كبيرة لحسم الصراع، وإنهاء السلطة.
عكس المنظور الطائفي أو دعاته أو من لا يرى المدينة إلّا درزية، السويداء ذاهبة نحو "الاستقلال وليس الانفصال"
ستظهر المشكلات إن انحصرت الانتفاضة في السويداء، ولم تمتد بشكلٍ فاعلٍ إلى درعا مثلاً، أو أرياف دمشق والقلمون، أو حمص، وبالطبع إلى مدن الساحل. وقد دفعت الخشية من ذلك الانحصار أكثرية البيانات الصادرة عن الانتفاضة إلى التأكيد على ضرورة فتح معبر مع الأردن، حيث سيكون بمثابة الرئة لهذه المحافظة الحدودية، وهو ما رفضه النظام منذ عقودٍ.
يَتهم النظام المحافظة بالانفصال، وهو ما رفضته أغلبية الفعاليات، بما فيها الهجري، والتهمة هذه جاءت بسبب وجود بعض المجموعات فيها، تؤكّد ضرورة انخراط المحافظة في تحالفٍ مع التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أو طلب تشكيل منطقة آمنة، تمنع النظام من الاستفراد بها، أو إراقة الدماء.
تجاوزت المحافظة التهمة الطائفية، وتشدّدت في الخطاب الوطني، ولم تنتقد النظام وفقاً لممارساتٍ طائفيةٍ من بعض أجهزته أو شخصياته، بل انتقدته، كنظامٍ استبدادي عائلي إفقاري؛ ففي وقتٍ تؤكد فيه على إسقاطه، لم تتجاهل المطالب الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وضرورة الانتقال إلى نظام ديمقراطيٍّ مواطني، يتمثّل فيه جميع السوريين، ويحقّق مصالحهم.
لأسبابٍ كثيرة، لا تبدو المحافظة في وارد التفكير للعودة إلى "الانتماء" للنظام. وهي، في الحقيقة، لم تكن تحت معطفه منذ 2011. ولكن، ومع إشارتنا إلى بعض المشكلات، وتميّز خطاب الانتفاضة بشكلٍ حاسمٍ لجهة عدم تكرار مشكلات الثورة ما بعد 2011، فإن مسألة تشكيل نموذج جاذب لبقية السوريين للثورة، مطروحة بقوة، سيما بعد فشل بقية النماذج، قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهيئة تحرير الشام، والفصائل، وبالتأكيد النظام. وتأتي أهمية النموذج، في حال تعثّر انتقالها، ومحاصرة النظام المحافظة؛ الأيام الأولى للانتفاضة، تقول بقدرتها على تشكيله، حيث التأكيد على الشعارات التي استقرّت عليها الثورة، أي إسقاط النظام وتشكيل دولة لكل السوريين، يعتمد نظامها السياسي الديمقراطية المواطنية، ومحاسبة المجرمين وتطبيق العدالة الانتقالية، وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، مدخلا للانتقال نحو المرحلة الانتقالية، وتشكيل هيئة حكم جديدة، لها كامل الصلاحيات، ورفض الاحتلالات، وإلغاء كل الاتفاقيات مع روسيا وإيران.
وقائع، وممكنات كثيرة، تؤكّد أن النظام وصل إلى نهايته، وربما تكون انتفاضة السويداء درّة تاج الثورة السورية قبل البدء بالمرحلة الانتقالية
وعكس المنظور الطائفي أو دعاته أو من لا يرى المدينة إلّا درزية، السويداء ذاهبة نحو "الاستقلال وليس الانفصال". ورغم دعاية النظام أنها ساعية نحو التقسيم ومدعومة من إسرائيل، ومن هذه التهم المستهلكة والبائتة؛ فإنّها ساعية إلى أن تكون نموذجاً لبقية السوريات والسوريين. إضافة إلى هذا، رفضت المدينة أيّ أشكالٍ من الدعم الخارجي، ورفضت الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ولا يبدو أنها ستقبل الخضوع أيِّ خضوعٍ ولأيِّ طرفٍ دولي؛ هي تتجه إلى تأسيس مجلس محلي وقوة عسكرية وأمنية منظمة، وهيئات متعدّدة للاستشارات وفي مختلف الاختصاصات، وأيضاً إطلاق ميثاق وطني لكل السوريين، باعتبارهم متساوين ولا تمييز بينهم عرقياً أو دينياً أو سياسياً، والعدالة الاجتماعية للجميع، وشكل النظام السياسي الديمقراطية المواطنية، وبالتالي، إدارة شؤون المدينة، بما يؤمّن احتياجاتها ويمنع الفوضى فيها.
لنفترض أن السويداء فقط خرجت عن سيطرة النظام، ولأسبابٍ داخلية ودولية لن يستطيع مواجهتها عسكرياً، حيث ذكرتُ أن المحافظة ستُسقِط النظام فوراً، إذا اعتمد الخيار العسكري. وسيكون، انهيار الأوضاع الاقتصادية ورغبة أغلبية السوريين بالتغيير السياسي، عاملاً مساعداً في معركة الإسقاط. وهناك عامل جديد، يبدو أنّه سيلعب دوراً مؤثّراً في إضعاف النظام المتهالك أكثر فأكثر، وهو إعادة انتشار القوات الأميركية في العراق وسورية، ونشر قوات عراقية وسورية على جانبي الحدود بما يقطع طريق إيران وعبر سورية "البوكمال" وإلى لبنان، وسيؤدّي هذا إلى إضعاف المليشيات الإيرانية في كامل المنطقة، وبالتالي، لن تتمكّن من مؤازرة النظام.
سيساعد هذا العامل، موضوعياً، الانتفاضة، وربما انتقالها إلى مناطق جديدة. إذاً، هناك وقائع، وممكنات كثيرة، تؤكّد أن النظام وصل إلى نهايته، وربما تكون انتفاضة السويداء درّة تاج الثورة السورية قبل البدء بالمرحلة الانتقالية. إذاً، النظام أمام خياراتٍ صعبة، إمّا الموافقة على تطبيق القرار 2254، أو دفع البلاد نحو الفوضى، وهذا أحد الخيارات الممكنة، ولكن أيضاً، قد يدفع ضعف النظام نحو انقلابٍ عسكريٍّ من داخله، للقفز من تبعات إسقاطه عبر توسّع الانتفاضة. كل الخيارات والوقائع تقود إلى ضرورة رحيل السلطة، حلّا للأزمة.