انتخابات نقابة محرّري لبنان
بعض المكاسب التي تحسم من رصيد السلطة الحاكمة وأعوانها أياً كانت مناصبهم، على محدوديتها في أحيانٍ كثيرة، تستحق أن يطلق عليها "انتصار". ما جرى في انتخابات نقابة محرّري الصحافة اللبنانية، أول من أمس الأربعاء، يمكن وضعه ببساطة في هذه الخانة.
تقفل النقابة منذ سنوات الجدول النقابي ولا تفتحه إلا في ما ندر، لتحرم بذلك العدد الأكبر من الصحافيين من نيل حقهم البديهي بالانتساب التلقائي. إغلاق الجدول بمثابة عُرف متبع منذ سنوات، هدفه الأساس إدامة القدرة على التحكّم بنتائج أي انتخاباتٍ تجرى في حال تعثرت التسويات المعهودة بين أقطاب السلطة بالخروج بلائحةٍ واحدةٍ تفوز بالتزكية.
على هذا الأساس، لم يخُض تجمّع نقابة الصحافة البديلة، الذي يعرّف عن نفسه بأنه جزء من الانتفاضة الشعبية لإسقاط النظام، ويفرض نفسه منذ فترة ككيان مواز، الانتخابات للفوز بها. وبالتالي، تصوير عدم خرق المرشّحة الوحيدة للتجمّع، أليسار قبيسي، اللائحة الأساسية، أنه خسارة محاولة للالتفاف على الحقائق.
كان التجمّع واضحاً أنه لا يراهن على تحقيق أي خرق، وأن هدف خوض المعركة الأساس مراقبة سير الانتخابات ورصد الانتهاكات وحفظ الحق بالتقاضي ضد أي مخالفاتٍ ارتُكبت أو تُرتكب. لكن ما لم يكن متوقعاً هو عدد الأصوات التي حازتها مرشحة التجمع، 93 من أصل 671 من مجمل الذين شاركوا في الاقتراع أي بحدود 14%.
يمكن تصوّر كيف أن النتيجة كانت لتختلف على نحو جذري، لو أن جميع الصحافيين في لبنان، تحديداً الجيل الشاب، لم يُحرموا من حقهم بالانتساب لنقابتهم، ولو أن مقرّ الاتحاد العمالي العام الذي أجريت فيه الانتخابات لم يشهد استنفاراً لصالح لائحة السلطة كان بداية منذ لحظة بدء التصويت.
ولذلك، يعدّ "تحرير" الجدول النقابي أولوية المرحلة المقبلة، خصوصاً بعدما ثبت أن "التجمّع" قادر على الحشد والضغط. وما يساعد في ذلك أن قائمة أهدافه واقعية تلامس حاجات الصحافيين. فالضغط من أجل وجود نقابة تمثّل جميع الجسم الصحافي والإعلامي، أكانوا موظفين في مؤسسات أم في العمل الحر، وأن يكون انتسابهم إليها "ضمن آليةٍ واضحةٍ بلا باب يقفل، ولا نافذة تُفتح"، يمكن أن يمهّد لتغييراتٍ، لكنه يحتاج إلى اتباع سياسة النفس الطويل من أجل تحقيقه.
يبقى أن ما جرى في نقابة المحرّرين غير منعزل عما شهده لبنان منذ "17 تشرين". فبغض النظر عن مآلات الانتفاضة راهناً، خصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020)، ونجاح أركان السلطة في إعادة تثبيت النظام، على الرغم من الخلافات التي تعصف بهم، فإن الحراك الشعبي أفرز مشهداً سياسياً وشعبياً مختلفاً، تسلّل إلى انتخابات الجامعات والنقابات. مختلف الاستحقاقات التي جرت في السنتين الماضيتين أظهرت وجود تيّار معارض أصبح أكثر جرأةً في التعبير عن وجوده، لكنه أقلّ إدراكاً لأهدافه وأولوياته النهائية، وهو ما انعكس في أكثر من مرة في الفشل بتكوين تحالفٍ معارض، لتستطيع السلطة الاستفادة من تشتت الأصوات والحفاظ على وضعها أو استعادة ما خسرته إلا في ما ندر، خصوصاً بعدما تحوّلت كل انتخابات جامعية أو نقابية إلى معركة كسر عظم، استنفرت قوى السلطة جميع قواها من أجلها.
وإذا كان لا يمكن تجاهل أن توتّر قوى السلطة في كل استحقاق من هذا النوع يتصاعد مع اقتراب الانتخابات النيابية المقرّرة العام المقبل (إن حصلت)، لكن أيضاً لا يمكن الذهاب بعيداً واعتبار أن ما جرى في عدد من النقابات والجامعات سيتكرّر في الاستحقاق البرلماني، لأن العوامل التي تتحكّم بالانتخابات النيابية مختلفة إلى حد كبير، ولأن أدوات المعركة مغايرة.