انتخابات السيطرة وإنتاج النخب المحلية في تونس
جرت في تونس، أمس الأحد، الانتخابات المحلية، وهي الأولى، إذ لم يسبق أن عاشت البلاد مثيلاً لها في سابق تاريخها، فإذا كان التونسيون قد تعودوا، حتى قبل الثورة، على المشاركة في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية، فإنّ تاريخهم السياسي لم يعرف مطلقاً الانتخابات المحلية التي تختلف عن الانتخابات البلدية، هي جنسٌ هجينٌ من الانتخاب عن قرب، من دون أن تكون مهمّة من انتخب تقديم خدمات أو غيرها، فهي تجرى من أجل تصعيد ممثلين على المستوى الوطني، يكونون أعضاء في الغرفة النيابية الثانية التي يسمّيها النظام الإداري والسياسي الجديد المجلس الوطني للجهات والأقاليم.
تنتشر هذه المحليات على مجال جغرافي صغير، هو "العمادة"، وهي أصغر وحدة تنظيم سياسي إداري للبلاد. ومع ذلك، يراهن النظام عليها كثيرا بقطع النظر عن جدواها السياسية المباشرة والموارد المالية المتاحة لها. حين الإعلان عن نتائجها النهائية، يكون الرئيس قيس سعيّد بذلك قد أتم تقريبا في عهدته إنجاز انتخابين هامين، التشريعية والمحلية، في انتظار إجراء الرئاسية في الأشهر الثلاثة الأخيرة من السنة المقبلة. وبهذا يدعم أوتاد حكمه، ويبسط مطلق سلطتها، سواء على المؤسّسات (الغرفتين النيابيتين، أي مجلس النواب ومجلس الجهات والأقاليم)، أو على الأرض من خلال هذا النسيج الدقيق من المحليات المبثوثة في أدقّ مفاصل الفضاء الجغرافي للبلاد.
يراهن النظام السياسي على إنتاج نخبه الخاصة به، وهو الذي حسم أمره، بعد تردّد، ومرّ بسرعة البرق، إلى تفكيك نخب الانتقال الديمقراطي، بعد أن حلّ مجلس النواب السابق، وكذلك فعل بالمجالس البلدية المنتخبة... يعوّض النظام كل هذه الكتائب الإدارية التي كانت تقود المرحلة بالمعنيين، الإداري والسياسي، من أجل أن يستبدلها بكتائب أخرى، ولكنها أكثر عددا، فآلافٌ من المنتخبين في هذه المجالس المحلية الجارية حاليا التي ستشيد من فراغ هذه الشبكات الجديدة، وهي التي يراهن عليها النظام لإحكام السيطرة على الأرض، بالمعنيين، الإداري والسياسي. تحاكي المحليات في هرميتها وتدويرها كل تجارب "التمثيل القاعدي" الذي عرفته عديدٌ من النظم الشمولية، خصوصاً ذات النزعة اليسارية الشعبوية. وهنا، يذهب مختصّون في القانون الإداري والعلوم السياسية إلى أن تونس، في حالها هذا، أقرب إلى نموذج اللجان الشعبية التي قادها معمّر القذّافي.
يذهب مختصّون في القانون الإداري والعلوم السياسية إلى أن تونس أقرب إلى نموذج اللجان الشعبية التي قادها القذّافي
بمرور الأيام، ستبدأ هذه الجيوش المدنية الضخمة في مراقبة الفضاء العام بمعنييه، السياسي والإداري، ويغدو أفرادها الجهة الوحيدة التي يتّجه إليها المواطنون من أجل عرض مشكلاتهم وطلب حلها. هذه الوجوه المنتخبة، وبقطع النظر عن نسب الاقتراع والمشروعية، هي التي ستكون سلطة الأمر الواقع التي يلجأ إليها المواطن، عن قناعة أو عن اضطرار، من أجل أن تكون صوته، خصوصاً أن ذلك يتزامن مع اختفاء المعارضة بشكل محيّر، وارتفاع منسوب صعوبات المعاش اليومي.
ربما نقطة الضعف الوحيدة في هذا كله ما يثيره بعضهم من غياب عقيدة سياسية دقيقة المبادئ والأفكار، حتى تستطيع أن تلحم بين كل هذه الجيوش المدنية وتعبئتها، من أجل وحده الفكرة، على غرار كل المجالس المحلية التي عرفتها الأنظمة الشيوعية تحديدا، غير أن هذا الأمر مردود على أصحابه أيضا، حين نستحضر أن حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي (المنحل) حكم من دون أن تكون له عقيدة سوى أفكار براغماتية. مع ذلك، النظام الحالي في رأي عديدين يمتلك مقوّمات عقيدة شعبوية واضحة المعالم، قوامها بعض أفكارٍ بدأ الرئيس سعيّد يفصح عنها: رفض التمثيلية الديمقراطية "الليبرالية" وكل "أشكل الأجسام الوسيطة"، سيادة الشعب من خلال ديمقراطية مباشرة، السيادوية، احتكار جل السلطات، الفكرة العروبية، محافظة اجتماعية ذات مسوح ديني، مناهضة الأثرياء ... إلخ. لم يصل الأمر بعد إلى أيديولوجيا متكاملة الأركان، بل هي عقيدة غائمة.
باستثناء عشرية الانتقال، كان تاريخ تونس السياسي محكوما بعهدات رئاسية طويلة المدى
حين تستقر الأمور لتلك الجيوش المدنية المنتخبة، وهي التي ستتحكّم في مفاصل الدولة وتحكم سيطرتها على الأرض، وحينما تترسخ في تمثلات الناس السياسية وممارسته شيئاً فشيئاً، ستتحوّل تلك الجموع إلى أتباع خلص لتلك العقيدة الشعبوية، وتلتبس علينا جميعاً إن كان هؤلاء يدافعون عن مبادئ عقيدة تجمعهم أو مصالح توحدهم.
تجرى كل هذه الترتيبات إلى ما بعد سنة 2024 التي سيخوض الرئيس فيها انتخاباتٍ لا يبدو في الأفق أن أحداً من خصومه قادرٌ على مزاحمته فيها. يكرّر أنه لا ينافس أحداً وأنه لا يخوض حملات انتخابية، بل يلتقي بمواطنيه، ويلقي عليهم رؤاه تاركاً للمفسرين من أتباعه تأويل ذلك تارة وشرحه تارة أخرى.
كل هذه الهندسة السياسية الدقيقة والتفكيك الحادّ للتراث السياسي الذي راكمته البلاد منذ الاستقلال (1956)، فضلاً عن شيطنة الانتقال الديمقراطي، ونخبة لا يمكن أن تكون أعدّت لعهدة انتخابية واحدة، أو حتى لعشرية يتيمة، بقطع النظر عن منجزاتها. سنكون، بالأحرى، أمام فترة مفتوحة على كل الانتظار والترقّب من أجل الاستلام والقبول بالأمر الواقع على المدى الطويل. ... باستثناء عشرية الانتقال، كان تاريخ تونس السياسي محكوما بعهدات رئاسية طويلة المدى.