انتخابات الجزائر .. متفجّرات "فجر التغيير"
عندما اختيرت عبارة "فجر التّغيير" شعارًا للانتخابات التّشريعيّة التي نُظّمت في الجزائر يوم 12 يونيو/ حزيران الحالي، كان واضع هذا الشّعار يتوهّمُ أنّ هذه الجملة كافية لفتح نافذة أمل لدى الشّعب الجزائريّ بإمكانية حدوث تغيير، وغاب عنه أنّ الشّعب الذي ضُحك عليه بشعار "سبع سنين بركات" بُعيد الاستقلال، وعاش بعدها شعاراتٍ برّاقة، وأكثر لمعانا، مثل "من أجل حياة أفضل" و"الجزائر أوّلا وقبل كلّ شيء"، أدرك أنّها مجرّد شعاراتٍ جوفاء وفارغة، نتائجها كانت مقروءة سلفًا، لأنّها كانت تعيدنا دائمًا إلى صيف 1962. وبالتّالي، لم يكن إعطاء رجاء جديد ببزوغ فجر تغيير ينتظره الشّعب منذ استقلاله ليغيّر من قناعة شعبٍ تيقّن أنّ الشّعارات تُثبت تغيّر وجوه النّظام، أكثر ممّا تُثبت أنّ هذه الوجوه تهدف حقًا إلى إحداث تغييرٍ حقيقيّ وجادّ.
ثلاثة أيام بعدها، كانت كافية لظهور النتائج، لتُظهر عدم انكشاف ظلمةِ اللّيل عن نور الصّبح، وبأنّ ما عاشه الجزائريون كان فجرًا مستطيلاً، ولم يكن أبدًا بالفجر المُستطير، وبأنّ فجر 12 يونيو/ حزيران 2021 كان فُجورا في حقّ الدّيمقراطيّة، لأنّه فجّر فرصا كثيرة كان يمكن استغلالها من أجل بناء ديمقراطيّة حقّة، وفوّت محطّةً تاريخيّةً جدّ مهمّة لإحداث مصالحة بين الشّعب ونظامه.
أول هذه التّفجيرات أنّ النّظام فجّر فرصة إجراء انتخاباتٍ ديمقراطيّةٍ بعدما أساء توفير أبسط شروطها، وفي مقدّمتها كسب ثقة الجزائريين، على الرغم من يقينه أنّ غالبية أفراد الشّعب ستقاطع هذه الانتخابات، لتأكّدها أنّها ليست سوى محاولةٍ لتبييض وجه النّظام، أكثر منها عمليّة لبناء الدّيمقراطيّة، وترسّخ في ذهنها أنّ الانتخابات لم تعد تعني أنّ النّظام أصبح ديمقراطيا، لأنّها تقوم على التزوير والكذب والتّضليل أكثر ممّا تقوم على مبادئ الدّيمقراطيّة، وتبث في أعماقهم فكرة أنّ الانتخابات ما هي إلا وسيلةٌ لتدعيم شرعيّة النّظام أكثر ممّا هي فرصةٌ لتثبيت أسس الدّيمقراطيّة.
انتخابات ناسفةٌ لأمل ميلاد أحزابٍ جديدة، فقد كانت نية النّظام القائم، منذ البداية، واضحة في التّنصّل من كلّ الأحزاب
الثّاني، تفجير بناء سلطة تشريعية فعليّة، إذ ضيّعنا مناسبةً أخرى لتأسيس برلمان شرعي ديمقراطي يمثّل الشّعب، ويؤسّس لسلطةٍ تشريعيّةٍ قويّة، والإبقاء على حصر الانتخابات آلية سياسيّة لواجهةٍ ديمقراطيّةٍ تساعد السّلطة الفعليّة على إحكام قبضتها، ووضع برلمانٍ تُوكل له، كالعادة، وظيفة ضمان استمرار النّظام، يكون تأثيره على الحكومة جدّ ضعيف إلى درجة العدم.
الثالث، أن هذه الانتخابات ناسفةٌ لأمل ميلاد أحزابٍ جديدة، فعوض أن تكون أرضًا خصبة لزراعة أحزاب سياسيّة جديدة، وتزهر فيها الأحزاب الموجودة، فقد كانت نية النّظام القائم، منذ البداية، واضحة في التّنصّل من كلّ الأحزاب، وكأنّه يرغب في منح صورةٍ توحي بأنّه يتبرّأ من كلّ الأحزاب الموجودة، ويشجّع القوائم الحرّة. وهذا ما فتح شهيّة الانتهازيين والوصوليين للظّفر بمقعد في البرلمان عبر القوائم الحرّة، وبعدها انتظار لحظة إعلان الرّئيس نيّته في تأسيس حزبه للانضمام إليه.
الرّابع، إهدار الوقت مرّة أخرى لتقديم مترشّحين محترمين يحملون أفكارا وبرامج، وليسوا قنّاصي مقاعد في البرلمان، همّهم الأوحد ضمان أجر شهريّ محترم، ما يكرّس لدى أفراد الشّعب أنّ من يترشّح للانتخابات ليس سوى مهرول لأخذ نصيبه من الرّيع، لا يحرص إلا على منافعه، ولا تهمّه المصلحة العليا للبلد ولا استقراره أو ازدهاره، ولا يهمّه إن تحوّل، في نهاية المطاف، إلى مجرّد بيدقٍ لإضفاء ما يُشبه الشّرعيّة على الانتخابات.
يستحيل دعوة أفراد الشّعب إلى الانتخاب والإدلاء بأصواتهم عبر الصّناديق، في وقتٍ يمنع فيه النّظام هؤلاء الأفراد من التّعبير عن أصواتهم في شوارع المدن الجزائريّة
الخامس، تفويت الانتخابات ما يمكن أن توفّره من مناخ ملائم لتحضير بيئةٍ تسمح بتعدّد الأفكار، وإنتاج آراء مختلفة، والتّخلي نهائيا عن التُّرَّهات التي أصبح يتقزّز منها الكبير والصغير، وتحاشي الاستمرار في غرس أفكار باليةٍ وهشّةٍ وضعيفةٍ، بالأخصّ أنّ النّظام يعرف، وهو يصوغ قوانينه السّابقة، أية نتائج ستترتب عليها، مثلما يعرف أنّ مشاريعه الآنفة كلّها كانت إصلاحية، الهدف منها إنقاذ ما تبقّى من مشاريع فاشلة. وبهذا فجّر فرصة إجراء انتخاباتٍ تكون وسيلة مُنتجة لفكر ديمقراطي، وممارساتٍ تحفظ الحقوق وتعزّز الحرّيّات، وتساهم في إيجاد مشاريع تنمويّة.
السّادس، أحرقت شظاياه كلّ محاولة لتكون الانتخابات مقدّمةً لحوار بين النّظام والشّعب، إذ يستحيل دعوة أفراد الشّعب إلى الانتخاب والإدلاء بأصواتهم عبر الصّناديق، في وقتٍ يمنع فيه النّظام هؤلاء الأفراد من التّعبير عن أصواتهم في شوارع المدن الجزائريّة، فالنّظام المتصدّع من أساس هيكله، عوض رفع أعمدة حوار جدّي مع الشّعب، قام بترميم قواعد أركان البرلمان، باعتباره، من الناحية القانونية ممثّلا للشّعب ومعبّرًا عن صوته، وبذلك فضّل الإبقاء على واجهته المزيّنة بديكور ديمقراطي، عوض ممارسة ديمقراطيّة حقّة بالتّحاور مباشرة مع الشّعب.
التّفجير السّابع، دمّر إمكانية ردم الهوّة بين النّظام الجزائري وشعبه، فالنّظام سابقا عبّر، صراحة وعلنا، بصَلْف وعجرفة، أنّه زوّر الانتخابات من دون حياء. وعلى الرغم من إدراكه أنّ الشّعب يعي أنّ النّظام غيّر من وجوهه من دون تغيير ممارساته، إلا أنّه لم يفعل ما من شأنه إقناع المواطن بأنّ الانتخابات التّشريعيّة لن يغلب عليها طابع التّلاعب والتّزوير، وأنّه تمّت تسويتها من البداية. لهذا، لا عجب إن بقي المواطن الجزائري يقاطع الانتخابات، ويعتقد أنّه لا حاجة له بها أو المشاركة فيها، وهذا بعدما ترسّخت في ذهنه قناعةٌ بأنّ الانتخابات لم تكن أبدًا ديمقراطيّة في عمومها، ولم تعبّر يومًا عن إرادة الشّعب، بل ويعتبر المشاركة فيها تعبيرًا عن موقفٍ يتعارضُ وإرادة الشّعب.
نور "فجر التغيير" لم يستطع إحراق ستائر ظلام المشكلات السّياسيّة التي تتخبّط فيها الجزائر
التّفجير الثّامن، لفح لهيبه شوارع الحراك الشّعبي، بعدما حاول النّظام تصفية مكتسباته والتّخلّص من أكبر حزب سياسي أسّسه الشّارع السّياسيّ، بجعل الانتخابات معركة للتّخفيف من حدّته، وتمييعه باعتبار أنّ الانتخابات أحسن وسيلة للتّعبير عن الرّأي العام، فبعدما بدأ "حراكا مباركا"، انتقل إلى "حراك مبارك أصيل"، لينتهي به الأمر متّهَما إلى جانب "جماعات إرهابيّة وانفصاليّة"، في محاولة لفصله عن الشّعب، بعدما فرض نفسه واقعا سياسيا، ومرآة عاكسة للحياة التّشاركيّة في الميدان السّياسي، وأبدى تعطّشا للمشاركة والتّغيير. لكن أكثر ما يثير الاستغراب أنّ هذا النّظام الذي رفض التّحاور مع الحراك دعاه إلى المشاركة في الانتخابات التّشريعيّة، ليلعب دور شاهد زور.
انتهت الانتخابات، من دون أن يعيش الجزائريون بزوغ فجر هذا التّغيير، أو يعرفوا له طعما أو رائحة أو لونا، سوى انجلاء حقيقة جديدة في تاريخ الانتخابات، مفادها بأنّ نسبة المشاركة لم تعد على جانبٍ كبير من الأهميّة بقدر ما يهمّ تنظيم هذه الانتخابات التي يبدو، من خيوط هذا الفجر، أنّها أبقت على الوضع الذي كان قبله.
نور فجر التغيير لم يستطع إحراق ستائر ظلام المشكلات السّياسيّة التي تتخبّط فيها الجزائر، وأظهرت مرّة أخرى أنّ المشاركة فيها كانت بمثابة مباركةٍ ديمقراطيّةٍ زائفة، والاعتراف بمشروعية هذه الأكذوبة، باعتبار أنّ الانتخابات يستحيل أن تكون وصفةً سياسيّة مناسبة لإحداث التّغيير، لأنّه ينبغي، أوّلا، إرساء نظام ديمقراطيّ، لتصبح بعدها الانتخابات وسيلة لتكريس هذه الدّيمقراطيّة، وليس العكس. وعليه، يبقى فجر هذا التّغيير مؤجّلا إلى حين أن يفهم كلّ منّا أنّ الانتخابات لا تعني الدّيمقراطيّة، ولا تمنح أيّ نظامٍ صفة الدّيمقراطيّة، إنمّا مجرّد إحدى آليات النّظام الدّيمقراطيّ.
تفجيرات فجر التّغيير كانت مدمّرة ومتعمّدة وموجّهة، لتؤجّل بزوغ هذا الفجر إلى حين، لتظلّ شمس هذا التغيير تشرق في قلب كلّ مواطن جزائريّ يؤمن بأنّ دوام الحال من المحال، مثلما يؤمن بأنّ انتخابات الفجر تجفّ بسرعة.. مثل ندى الصّباح.