انتخابات أميركا... دور استطلاعات الرأي
بعد دراما تنحّي بايدن وتصدّر كامالا هاريس المشهد الانتخابي في الولايات المتحدة، تحرّكت استطلاعات الرأي قليلاً لصالحها. ويمكن أن يُعزى هذا الانزياح إلى تلقّي الديمقراطيين دفقة نشطة أعقبت انسحاب المرشّح العجوز، فقد كان أداء بايدن خلال حملته بطيئاً ومتعثّراً، ما أفقد الديمقراطيين الكثير من زخمهم الحماسي، ليعوّض اختيار هذه السيدة بعض الحماسة المفقودة... لكن الإحصائيات أخيراً بدأت بإظهار تقهقر بطيء لهاريس، رغم أنها ما زالت تحافظ على بعض التفوّق الطفيف، الذي يمكن أن يقع ضمن هامش الخطأ. وبما أن الوقت مبكّرٌ للاعتماد على إحصائيات الرأي العام، حيث يفصلنا أكثر من ثمانية أسابيع عن موعد الانتخابات، وهي فترة ليست قصيرة، ويمكن أن تخبئ الكثير، سيما أن الحملات الانتخابية الأميركية تعتمد على مفاجآتٍ يمكن أن يخفيها المرشّحون لبعضهم، ولا يُفصَح عنها إلا قبل فترة قصيرة من بدء عملية الاقتراع، ليبقى الناخبون واقعين تحت تأثير ما أُفصِح عنه أخيراً. وخلال ذلك لا تتوقف الدوائر المختصّة بالإحصاء عن سبر المشاعر في محاولة التنبؤ بالرئيس القادم قبل موعد الانتخاب.
بدأت استطلاعات الرأي وعدّ الناخبين بشكل مسبق، منذ مائتي سنة، بقصد التنبؤ بالفائز في الولايات المتحدة، وبطرق يدوية ومباشرة، منها كتابة أسماء المرشّحين على علب الحلوى أو الأغذية الأخرى، وكانت تُحتسب النقاط على أساس عدد العلب المبيعة باسم كل مرشّح. تطور الأمر كثيراً، وضُبط بقواعد الإحصاء العلمية، إلى أن أصبحت استطلاعات الرأي إجراءاتٍ منتظمة تقوم بها وسائل الإعلام، وتغذي بها آلتها الإخبارية باستمرار. وتتصاعد وتيرة إجراء الانتخابات، مع اقتراب الموعد النهائي لها. وتجسّ الحملات الانتخابية ذاتها الرأي العام، بمعرفة موقع مرشّحها وتعديل نشاطها الدعائي وفقاً للنتيجة. وقد أظهرت النتائج الحقيقية للانتخابات أن استطلاعاتٍ للرأي كثيرة يمكن أن تكون صائبة بهامش الخطأ المعلَن، ولذلك ازداد الاعتماد عليها، رغم إخفاقها، في أحيان أخرى، كما حدث في انتخابات عام 2016، عندما أكّدت الاستطلاعات أن هيلاري كلينتون ستهزم ترامب، لينقشع دخان اليوم الأخير بفوز ترامب. ومع ذلك، لم يتوقف الاعتماد على سبر الرأي العام، ووُضع عاملاً ثابتاً وأساسياً في آليات تحرّك الحملات الانتخابية.
تجري استطلاعات الرأي حالياً بالتوجّه إلى عيّنة مختارة عشوائياً من 500 إلى 1000 شخص، يراعى أن تمثّل المجتمع تمثيلاً جيداً من ناحية العمر والثقافة والعرق والمستوى الاجتماعي... ثم تُسأل العيّنة أسئلة متطابقة، ليجري الفرز والتحليل الإحصائي بحسب نموذج رياضي معتمَد، يُضفي على النتائج صبغة موضوعية، يمكن أن تقع أخطاء غير مقصودة تؤثّر في نتيجة الاستطلاع. ويمكن أن يكون لدى أحد الحزبين قدرة أكبر في توجيه المستطلعةِ آراؤهم، ففي انتخابات 2016 ذاتها، أظهرت الاستطلاعات ميلاً كبيراً نحو كلينتون، يحتوى على نسبة عالية من الفئة المتعلمة. وفي المقابل، فشلت نماذج كثيرة من التنبؤ الرياضي في ذلك العام بترجيح فوز ترامب.
لا تُعَدّ نتائج استطلاعات الرأي وسائل محايدة، فقد تساهم نتائجها بطريقة غير مباشرة في زيادة التصويت لمرشّحٍ ما أو نقصه، وخصوصاً بطريقة إعلانها أو عرضها على الجمهور. وتلعب إدارات الحملات الانتخابية بأساليب إظهارها لتحويل النتائج مهما كانت لصالحها، ويمكن أن تكون للنتائج آثار غير مباشرة، فقد يتقاعس مؤيدو المرشّح الذي تفضّله استطلاعات الرأي، ما يؤدّي إلى انخفاض في عدد المصوتين له عملياً، وقد يؤثر ذلك في نسبة تفوّقه أو قد يفقده الفوز بالفعل. ويمكن أن يدفع الناخب المتردّد إلى التعاطف مع المرشّح غير المفضل، فيؤدّي ذلك إلى زيادة في أصواته، يمكن أن تخلخل النتيجة. وقد يفضل ناخب آخر أن يكون في الجانب الفائز، فيعطي صوته للمرشّح الذي تقف استطلاعات الرأي إلى جانبه. ... كل هذه عوامل نفسية تنشأ عن استطلاعات الرأي، يمكن أن تؤثر بالفعل في النتيجة النهائية.